المغاربة يحتفظون بإيصال اشتراكهم في بناء مسجد الحسن الثاني! الرباط ..روح الأرض وجوهر الناس "جنوبا وشرقا: رحلات ورؤى" لشاعر القصة القصيرة د. محمد المخزنجي، في هذا الكتاب الفريد يحملنا د . محمد المخزنجي بلغة الأديب وفضول الصحفي إلى بلاد بعيدة تتوزع بعرض الخريطة العالمية، في مجموعة من الرحلات الاستطلاعية الصحفية التي اعتبرت وقت نشرها طفرة في عالم الصحافة العربية. يستطلع المخزنجي في هذا الكتاب الصادر عن دار الشروق بلادًا صغيرة وكبيرة، يتتبع أحوال ناسها، وكيف أثرت فيهم عوامل التاريخ والجغرافيا، فأنجز كل منهم ثقافة مختلفة عن الآخر، وتقدم شكلًا من أشكال تآخي بني البشر مع أقرانهم ومع الطبيعة من حولهم. وبقدر ما يبحث عن العوامل السياسية التي تشكل تحديات أمام هذه الشعوب في اللحظة التي أقام فيها الرحلة، يكشف عن مقاومة العنصرية في جنوب إفريقيا، والدخان المتصاعد من تحت ركام البوسنة بعد الحرب. غلاف الكتاب غير أن الأمر الأكثر جاذبية هو الرؤية الكبرى التي خرج بها المخزنجي من رحلاته كلها فجعلته يعطي لكتابه عنوان "جنوبًا وشرقًا" في ولع واضح بالجنوب والشرق يفسره المؤلف بقوله: "فثمة فلسفة روحية، رؤية خلابة ورحيمة في ناس وبلدان ناس الجنوب والشرق، وقد فتحتُ عيون بصيرتي بقدر المتاح والمستطاع لالتقاط هذه الرؤى، وتأمُّلها في مرآة روحي، فكانت رؤى معكوسة لعلها أهم ما يميز هذه الاستطلاعات من وجهة النظر التقنية في نصوص الرحلة أو كتابة الرحلة، لهذا كانت رحلات ورؤى، آمل أن تكون ممتعة ونافعة لمن يتواصل معها". نتوقف اليوم عن رحلة المخزنجي لبلاد المغرب الكبرى. مئذنة تطل على المحيط الدار البيضاء قد تبدو نقطة ليست دالة بوضوح على النموذج المغربي. لكن هذا للوهلة الأولى كما يشير الكتاب، إنها مدينة كبيرة وغضة في أن تنامت مئة مرة أكثر من حجمها الذي بدأت به عام 1900، وتكاثر سكانها من عشرين ألفاً إلى أكثر من ثلاثة ملايين. لكن قليل من الإيغال في قلب الدار البيضاء هذه، يكشف عن بعض من خصوصية ألوان المغرب وعطورها ورفيف الروح فيها. ولعل مسجد الحسن الثاني الكبير، الأعجوبة الإسلامية العصرية المطلة على مياه الأطلسي..لعله يكون بداية لمشهد مغربي ذو خصوصية وفرادة. ويرى المخزنجي أن المسجد أبعد من زمن افتتاحه بكثير، فقد افتتح في أغسطس عام 1993بعد ست سنوات من التشييد، لكن هذا "القلب الرمزي" كما وصفه أحد الكتاب الغربيين فأحسن الوصف يكتنز في رحابه وبين حناياه لمحات معتقة من روخ المغرب الفنان المؤمن والمنفتح. ويروي المخزنجي ما شاهده في كثير من البيوت والمحال والحوانيت من افتخار بامتلاك إيصال للتبرع مشاركة في بناء هذا المسجد الشامخ، يقول: فالإيصال رأيته كثيراً داخل إطار معلق على الحائط بشكل يوحي بالزهو والتشريف. مسجد الحسن يتأمل المخزنخي عمارة المسجد وزخارفه ونقوشه، ويصف لنا فيقول أن به 2500 عمود، وقاعة صلاة تسع 29 ألف مصل إضافة إلى ثمانين ألف في الباحة!. والمئذنة مربعة المقطع ترتفع مئتي متر، والأبنية الملحقة بالمسجد لتشكل مجمعاً ثقافياً إسلامياً متكاملاً، كل هذا ينبض بفن الروح المغربي المتصالح مع ذاته والمسبوك من عناصر تصاهرت معاً برغم كونها من مصادر شتى. ويتابع المخزنجي واصفاً: زخارف "الزليج" أو فسيفساء الخزف الملون على الأعمدة والجدران وأضلاع المئذنة وهامتها. والحفر على خشب الأرز الذي يجلد صحن المسجد، وأعمال الجص المنقوش الملون في الحنايا والأفاريز، كل هذا الفن برأي صاحب الكتاب ليس ابن ثماني سنوات أو عشر أو عشرين، وليس وقفاً على مسجد الدار البيضاء الكبير هذا. إنه كما يقر المخزنجي تراث فني يستمد جذوره من عبق أول مسجد في عمر الإسلامبالمدينةالمنورة منذ ألف وثلاثمائة واثنتين وسبعين سنة مضت. ويبلور حصاده من إسهامات السنين والأمصار، ففسيفساء الزليج المغربي بوحداتها المتكررة باتقان وبهاء تجذب الرائي لتنتزعه من عالم الواقع المحسوس إلى عالم الروح اللامتناهي. فالتكرار البديع يبدو وكأنه لا ينتهي ومن ثم يكف البصر عن التركيز فتتحرر البصيرة. ويعتبر المخزنجي أن هذا الصرح المنطوي على ذلك الإرث المغربي الإسلامي هو نفسه نموذج على الروح المغربي المنفتح على ما ينفع، فالمسجد يمر تحته نفق طويل حديث حتى يستمر في السريان، وثمة "جراج" متعدد الطوابق تحت أرض الساحة، أما صحن المسجد فإنه ينفتح بتجهيزات الكترونية متطورة فيما لا يتجاوز ثلاث دقائق عندما يكون الجو صحواً، وينغلق في الدقائق الثلاث ذاتها إن أنذرت بالمطر. هذا عن المسجد أما عن الناس فقد شكل لهم المسجد متنفساً روحياً رحيباً وساحة طيبة لتنسم هواء المحيط في ساعات العصر والغروب، حيث يقتعدون الأسوار الخفيضة لباحته المطلة على الماء منم كل ناحية، ويزور الناس جزيرة صغيرة تعلو مدارجها بيوت صغيرة بيضاء، فثمة ضريح لأحد الأولياء في الجزيرة يذهب إليه الناس لقراءة الفاتحة استجلاباً للبركة، ويؤكد: "كل شئ هنا..وكل الأشياء في تصالح". ويتنامى إحساس المؤلف بحالة التصالح هذه؛ فيقول: إذ نكمل جولتنا بالدار البيضاء، فمن أقصى غرب الشاطئ نمر بنفندق "أنفا" فنتذكر أن الفينيقيين كانوا يقيمون لهم ميناء في هذا المكان، وفي هذا المكان تم لقاء روزفلت وتشرشل عام 1943 فاتخذوا قرار غزو سيشل وقرار الإنزال البري ضد هتلر عام 1944. نمر قرب الميناء بالمدينة القديمة التي تتهيأ للتبدل حتى يمر الطريق الكبير الجديد إلى مسجد الحسن الثاني، فتتذكر أن البرتغاليين أقاموا في هذا المكان لأول مرة منذ خمسة قرون، وكعادتهم التي جعلت البعض يسميهم "براغيث البحر" لم يمكثوا في المكان، لكنهم عادوا إليه بعد قرن وأسموه "كازابلانكا" أي "البيت الأبيض" أو الدار البيضاء، وكان مقامهم ينهض على مرتفع يشرف على خليج صغير دمره زلزال لشبونة عام 1755. ثم عاد بعد ذلك التجار المغاربة وعمروا المكان، المكان مزدحم ويعج بسكانه البسطاء، وإذ نخرج منه نمر بمركز كبير للتسوق يسمى "مركز 2000" فكأن خمسة قرون كاملة قد ذابت في "المدينة" وتماهت في زمن واحد هو الزمن المغربي. بستان في قلعة البحر يقول المؤلف: زرنا الرباط، وعرجنا على أقدم مساجد المدينة والراجع تاريخه إلى 1150 ميلادية، ثم صعدنا بعد ذلك إلى مرتفع صومعة حسان وضريح الملك محمد الخامس، ومن إيحاءات التاريخ القديم الذي تلقى بظلاله المئذنة الهائلة المسكورة والأعمدة الواقفة في الفضاء المشمس. ومن جلال السكون في الضريح المزين بلمحات كل الفنون المغربية رحت أطل على الرباط من هذه الذروة، هنا كان يقف البحارة الفينيقيون والقرطاجيون ومن بعدهم الرومان الذين أسسوا مدينة "شالة" ذلك الاسم الذي كان يُسمى به النهر..وكانت "شالة" أهم موانئ "موريطانيا الطنجية" التي احتلها الرومان واندثرت بانهيار الإمبراطورية الرومانية. الرباط وفي القرن العاشر للميلاد أسست قبيلة بربرية من المسلمين هي قبيلة "زناتة" مدينة "سلا" على الضفة اليمنى من النهر..بينما شيدت على لجانب الأيسر حصناً دفاعياً ضد هجمات ما يأتي من البحر وأسموا الحصن "رباطاً"، وأعطى الحصن للمدينة اسمه. وفي عهد الموحدين قرر القائد الكبير عبدالمؤمن تحويل هذا الموقع إلى مركز محصن تنطلق منه الحملات العسكرية إلى بلاد الأندلس فصار "رباط الفتح". ويحكى أن منارة حسان تلك التي شاهدنا يقاياها أمام ساحة ضريح محمد الخامس كانت تشكل مئذنة أحد أكبر مساجد العالم الإسلامي آنذاك. ولما استولى المرينيون على الرباط عام 1253م أصبحت مجرد مدينة صغيرة مقارنة مع مدينة حكمهم فارس، ولم تدب الحياة في الرباط من جديد إلا بعد توافد المهاجرين العرب عليها آتين من بلاد الأندلس. ويشير الكتاب إلى أن الرباط وتوأمتها سلا ظلتا في حالة عدم استقرار إلى أن ظهر ملوك الدولة العلوية فاستولى "مولاي رشيد" سنة 1666 على حصن أبي رقراق وبعده استطاع "مولاي إسماعيل" إخضاع المدينتين لحكمه. وفي القرن التاسع عشر أصبحت الرباط مركزاً كبيراً إلى أن تحولت رسمياً إلى عاصمة إدارية للمغرب عام 1912. يقول المؤلف: رحت اتأمل سلاوالرباط من قمة صومعة حسان وأستعيد ملامح قنطرة مولاي حسن الواصلة بينهما وصور الأزقة العتيقة والحوانيت وما تعج به من أثواب مطرزة وخزف ملون وخشب منقوش وأثاث من القصب. أستعيد مروري عبر الأبواب العتيقة وأدور في أزقة القصبة النظيفة المرحبة بالنور. وأستعيد وجوه الناس الطيبيين. وأتعجب أن تكون هذه الحالة من الدعة الجمالية والسلام هي محصلة صراع طويل بين البر والبحر، أخذاً ورداً حتى انتهى الصراع إلى عناق وادع. فلابد أنها روح الأرض وجوهر الناس. طنجة والأساطير عبر البحر المتوسط يلوح جبل طارق من ربوة منار مالاباطا على مبعدة عشرة كيلو مترات شرقاً. وعلى مبعدة اثني عشر كيلو متراً إلى الغرب يلتقي المتوسط بالمحيط عند رأس سبارطل في مغارة هرقل. الكهف العميق الذي ننفذ إلى داخله في عتمة ما تلبث حتى تنجلي عن فتحة النور. نافذة تحت الجبل تطل على مياه الأطلسي وترسم وجه رجل صارخ. وفي السقف نرى دوائر غائرة في قبة الحجر. إنها الرحى التي قدت من بدن الكهف لتعيد طحين الناس. طنجة فالأسطورة القديمة تختلط بخبز البشر في هذه البقعة. والأسطورة تقول أن المكان كان ممتداً يصل إفريقيا بأوروبا ويفصل بحر الروم "البحر المتويط" عن بحر الظلمات "المحيط الأطلسي" ولما كان لأطلس ابن نبتون "إله البحر" ثلاث بنات يعشن في بستان يطرح تفاحاً ذهبياً ويحرسهن وحش. قاتله هرقل "ابن جوبيتر" وهزمه، لكن هرقل في غضبة من غضبات الصراع ضرب الجبل فانشق لتختلط مياه المتوسط الزرقاء بمياه الأطلسي الخضراء وتنفصل أوروبا عن إفريقيا، ثم يزوج هرقل ابنه سوفاكيس لإحدى بنات نبتون ليثمر زواجهما بنتاً جميلة أسموها طانجيس، ومنها كانت طنجة!. طنجة المقدودة من الأساطير ومواجهات الشرق والغرب يجئ ليلها فلا تنام. وحيثما كنا كان البحر يعانق اليابسة كجزء من العناق المغربي الكبير بين البر البحر.