ليلة الرؤيا من الليالى المحفورة فى ذاكرة الحضارة الإسلامية وتبدأ مظاهرها قبل رمضان بثلاثة أيام، حيث يطوف القضاة على مساجد القاهرة ومشاهدها للإطمئنان على عمارته ونظافته والقناديل التى تعلق على مآذنها. وكان قاضى البلاد يخرج لرؤية هلال رمضان صحبة بقيه القضاة ويتوجه إلى جامع محمود بسفح جبل المقطم (مندثر الآن) حيث كانوا يجلسون على دكة مرتفعة تعرف بدكة القضاة لرؤية هلال رمضان، ويذكر الكندى فى كتاب "الولاة والقضاة" أن قاضى مصر الفقيه المالكى أبو الذكر محمد بن يحيى الأسوانى خرج عام 311ه إلى مسجد محمود لالتماس هلال رمضان على العادة وركب معه الشهود وأعيان البلاد وغيرهم من الناس. ويعد القاضى غوث المتوفى عام 68ه هو أول قاضى بمصر ركب مع الشهود لرؤية هلال شهر رمضان وسمع البينة وثبتت عليه، وبعد سقوط الدوله الفاطمية أصبحت الاحتفالات برؤية هلال رمضان سمة كل عام، ففى آخر ليالى شعبان يوفد إلى الصحراء عدداً من الرجال ليحاولوا رؤية الهلال الوليد ويسير موكب المحتسب من القلعة إلى بيت القاضى يتبعه مشايخ الحرف والجنود والمنشدون والموسيقيون، ويمكثون عند بيت القاضى حتى يعود أحد ممن أوفدوا لمشاهدة الهلال أو يتقدم ممن يؤكد رؤيته وإذا ذاك ينطلق الموكب فيتفرق إلى جماعات تجوب خلال المدينة وهى تنادى يا أمة خير الأنام غداً صيام صيام كما تنادى صيام صيام حكم من شيخ الإسلام. ليلة الرؤيا فى رحلة "محيط" عن ليلة الرؤيا مع عالم الآثار الإسلامية أبو العلا خليل يوضح أن مئذنة مدرسة السلطان المنصور قلاوون بالنحاسين ارتبطت برؤية هلال رمضان فى العصر المملوكى، وينقل عن إبن داوود الصيرفى فى كتاب "أنباء الهصر بأنباء العصر" قوله (وفى ليلة الثلاثين من شهر شعبان عام 876ه توجه قضاة القضاة إلى رؤية هلال شهر رمضان بالقبة المنصورية على العادة ورؤى الهلال فنودى فى الناس أن غداً من شهر رمضان وأرسلوا ليعلموا بذلك السلطان على جارى العادة). طرائف رؤية الهلال يشير أبو العلا خليل إلى طرائف تعدد رؤية الهلال فى بعض الأحيان مما يجعل الناس فى حيرة هل يفطرون أم يصومون، وعن ذلك يذكر إبن داوود الصيرفى فى كتاب نزهة النفوس والأبدان فى حوادث عام 796ه (وفى ليلة الثلاثاء الثلاثين من شهر شعبان اجتمع الناس لرؤية هلال رمضان وكثر الخلق فلم يره أحد منهم مع عددهم الزائد وأصبح الناس على أنه اخر يوم من شعبان وأكلوا وشربوا إلى الظهر حتى قدم الخبر بأن الهلال نظره فى بلبيس عدد كثير من الناس فنودى بالإمساك من بعد الظهر). كما حدث ذلك مع السلطان الظاهر برقوق الذى تولى سلطنة البلاد عام 784ه فحين كان السلطان يتناول طعام الغداء مع بعض مدعويه طاف المنادون بالقاهرة يعلنون رؤية الهلال فقام السلطان بطرد مدعويه وأمر برفع الصحاف وأعلن الصيام. خروج النساء تستمر رحلة "محيط" مع الباحث الآثارى أبو العلا خليل حيث ينقل عن الرحالة التركى أوليا جلبى الذى زار مصر عام 1092ه / 1680م وذكر عن الاحتفال برؤية هلال رمضان أنه لا يستطيع أحد منع زوجته من الخروج فى هذه الليلة، وقد اشترطت الزوجات عند الزواج أن يكون لهن حق الخروج من بيت الزوجية فى هذه الليلة وقد جرت العادة أن تحمل الفوانيس على البغال أمام وخلف ركب الملوك حين يسيرون فى ليالى رمضان. وعن ذلك يذكر القلقشندى فى كتاب "صبح الأعشى فى صناعة الإنشا" (أن أول من حمل الشمع معه على البغال فى الليل هو محمد بن طغج الإخشيد) وكان من عادة الخلفاء الفاطميين فى القرن الرابع الهجرى عند مرورهم أمام الشعب فى المواكب أن يحمل أحد الموظفين كيسا من الحرير مملوء بالدنانير الذهبية لتوزع فى الطريق، الذى يجتازه موكب الخليفة على الرجال والنساء والقرّاء الذين يقرؤن القرآن على جانبى الطريق، كما كانت هناك كسوة توزع على أهل الدولة وعلى أولادهم ونسائهم. التراويح وعن عوايد ذلك الزمان يذكر المقريزى فى الخطط ( وكان الموكب يتجمع حول أحد الشموع الضخمة التى يجرها الأولاد على عجلات وقد أمسك كل منهم بفانوسه وهم يهزجون بأغنيات دينية جميلة ويطوف الموكب المضئ دروب البلد وأزقته من بعد المغرب حتى موعد صلاة العشاء والتراويح حتى إذا ما جاء وقت السحور خرج المسحراتى يدق الأبواب وينادى على أصحاب البيوت قوموا كلوا). وقد ارتبط هذا الشهر الكريم بصلاه التراويح، والتراويح جمع ترويحة وتطلق فى الأصل على الإستراحة كل أربع ركعات وهى صلاة أقامها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأمر الناس بها فى شهر رمضان سنه14ه ومن جميل ما اعتاد عليه الوالى عنبسة بن إسحاق عام 238ه أنه كان يخرج وحده فى ظلمات الليل وينادى فى شهر رمضان بالسحور. رمضان كريم رمضان كريم لأنه شهر العطاء وشهر العتق والجود والترقى والصعود يطيب فيه البذل والعطاء وينقل أبو العلا خليل عن إبن تغرى بردى فى كتاب "النجوم الزاهرة" (وكان من عادة السلطان الظاهر برقوق المتوفى عام 801ه فى كل يوم من أيام هذا الشهر الكريم أن يذبح خمسة وعشرين بقرة يتصدق بها بعدما تطبخ ومعها آلاف من الأرغفة من الخبز النقى على الجوامع والمشاهد وأهل السجون ولكل شخص رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة هذا غير ماكان يوزع فى الزوايا من اللحم أيضاً فإنه كان يعطى لكل زاوية خمسين رطلاً من اللحم الضأن وعدة أرغفة فى كل يوم وفيهم من يعطى أكثر من ذلك بحسب الحال). ويستكمل الجبرتى فى "عجائب الآثار فى التراجم والأخبار" عن أهل الخير والعطاء (ومن خيرات الأمير عبدالرحمن كتخدا المتوفى عام 1190ه ماكان يخرجه من بيته فى ليالى رمضان وقت الإفطار عده من القصاع الكبار المملؤة بالثريد المسقى بمرق اللحم والسمن للفقراء المجتمعين، ويوزع عليهم هبر اللحم النضيج ويعطى لكل فقير نصيبه وعندما يفرغون من الأكل يعطى لكل واحد منهم رغيفين ونصفى فضه برسم سحوره إلى غير ذلك). قناديل رمضان عن قناديل رمضان يوضح أبو العلا خليل أن مآذن القاهرة تتميز بوجود صارى من الخشب بأعلاها لتعليق القناديل في شهر رمضان، وكانت العادة أن تظل موقده طيلة ليل رمضان فإذا ما أطفئت علم الناس أنه بداية يوم الصوم وعليهم بالامتناع عن الطعام والشراب. وقد أفتى العلماء فى ذلك الزمان على حرمة إطفاء القناديل بصارى المآذن قبيل طلوع الفجر لما يحصل من الإجحاف بمن ينام، ثم يستيقظ وهو عطشان فلا يجد القناديل فيظن أن الأكل والشراب قد امتنع والأمر ليس كذلك. الكتّاب والسبيل يروى أبو العلا خليل عن عوايد ذلك الزمان أنه إذا كان النصف من رمضان جمع معلموا الكتاتيب الأطفال الذين يعلمونهم وهم من الأيتام والفقراء وعلى صدورهم ألواح مكتوب عليها آيات من كلام رب العزة وساروا معهم مارين بالأسواق، يصيح بعضهم يا حنّان وبعضهم يا منّان وذهبوا إلى ناظر الكتاب الذى يخلع على كل صبى ثوب من النسيج المصرى، ثم يعطيهم رواتبهم من الأوقاف الخيرية. وإذا تم ذلك انصرفوا عائدين فرحين مسرورين متصايحين يا حنّان يا منّان، وكان بأسفل كل كتاب سبيل لشرب العطشى من المارة فإذا مر بعض الأعيان بمواكبهم بعد الإفطار وشربوا من ماء السبيل، سمع صبيان الكتاب يقرأن بصوت عالى الآية الكريمة (وسقاهم ربهم شراباً طهوراً) فيمن أهل الكرم عليهم.