وعدت الأصدقاء أن أشرح لهم معنى انتمائى لمرحلة «ما بعد الأيديولوجيا» وهذه محاولة لتوضيح الفكرة على نحو يخلط بين ما هو شخصى وما هو عام. فى رسالتى المتواضعة للماجستير درست «الوظيفة الاقتصادية للدولة». وبالاتفاق مع مشرفى وأحد أهم أعمدة العلوم السياسية فى جامعة القاهرة الأستاذ الدكتور مصطفى كامل السيد تعرضت لأهم 16 أيديولوجية غربية تتحدث فى هذا الموضوع. تناولت الرسالة الأيديولوجيات الغربية المدافعة عن حقوق الفرد والحريات الخاصة مثل المركنتيلية وارتباطها بنشأة الدولة القومية فى أوروبا، ثم جاءت النظريتان المقابلتان لها وهما الفيزوقراطية والكلاسيكية، ثم الفلسفة النفعية التى قللت من غلواء النظرية الكلاسيكية بالتركيز على البعد الاجتماعى، ثم الكينزية التقليدية والكينزية الجديدة لإعطاء صك الغفران لفكرة تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى من خلال الأدوات المالية، وبناء على النظرية النفعية ظهرت النظريات الديمقراطية الاجتماعية السائدة فى الدول الاسكندنافية، ثم المؤسسية الحديثة، ثم الليبرالية الجديدة. فضلا عن الأيديولوجيات التى انتصرت لحقوق المجتمع ووضعت الفرد فى إطار بنية اجتماعية أكثر تعقيدا من مجرد الحرص على حقوقه الشخصية مثل الأيديولوجية الاشتراكية التى دافعت عن تدخل جهاز الدولة فى النشاط الاقتصادى والمجتمعى وعن دوره فى إعادة تصحيح الاختلالات الطبيعية فى المجتمع، وتلك التى تبنت الاشتراكية ولكنها نظرت للدولة نظرة شك وريبة باعتبارها «هيئة أركان الطبقة المسيطرة اقتصاديا» مثل الماركسية والفوضوية، وبعدهما اللينينية كما طبقت فى الاتحاد السوفييتى وأوروبا الشرقية، ثم الإدماجية كما طبقت فى بعض دول شرقى آسيا والسلطوية البيروقراطية كما طبقت فى معظم دول أمريكا اللاتينية، ثم نظرية التبعية والتبعية الجديدة كإطار ناقد للانخراط فى الرأسمالية العالمية، وأخيرا النظريات اليسارية الجديدة.
ثم كانت قراءتى حول الأيديولوجيات العربية والإسلامية فى رسالتى للدكتوراه. المهم أن هذه القراءة المتواضعة لهذا الكم من الأيديولوجيات جعلتنى بعيدا عمن يبحث عن إطار أيديولوجى أو لافتة يضع تحتها مواقفه. لماذا؟ لأن الأيديولوجية لها ثلاث وظائف أنا متحرر منها : الأولى - وظيفة تبسيطية؛ والواقع المعاصر أعقد من أن نبسطه أيديولوجيا. الثانية - وظيفة تعبوية؛ وأنا لا أنتمى لتيار أو حزب يجعلنى راغبا فى حشد الطاقات للتصويت له . الثالثة - وظيفة سياسية (أى اقتراح السياسات)، والكتابات العلمية الرصينة تساعدنى أكثر من الأيديولوجيا على اقتراح السياسات الواجب اتباعها.
لكن، فلنكن حذرين: «ما بعد الأيديولوجيا» كما يتبناها أصحابها فى الغرب موقف مبنى على العلم بالأيديولوجيات ومعرفة نقاط قوتها وضعفها، وليس موقفا مبنيا على رفضها من باب الجهل بها. خشية إساءة استعمال المفهوم، لذا لزم التنويه. : نقلا عن صحيفة "الشروق الجديد " المصري