عبدالناصر دشن المراكز والإذاعات والبعثات .. والسادات تجاهلها مبارك خشى من إفريقيا بعد محاولة اغتياله بأديس أبابا مطالبة بمركز لقضايا القارة .. وفضائية .. ومهرجانات جادة أمريكا والصهيونية لعبتا أدوارا مشبوهة بحوض النيل الباحث لمحيط : الأزهر و"الثقافة" .. غياب المضمون وحضور الشكل حول "البعد الثقافي للدور المصري في إفريقيا .. فترة ما بعد الحرب الباردة " حاز الباحث أحمد عجاج درجة الماجستير مساء أمس من معهد البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة . الرسالة ناقشها د. محمود أبوالعينين، العميد الأسبق للمعهد والمشرف على الرسالة ورئيس اللجنة، د. جمال ضلع رئيس قسم السياسة والاقتصاد بالمعهد، ود. محمد طايع أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فيما حضر المناقشة عدد من المثقفين وبينهم وزيرا الثقافة الأسبقين د. شاكر عبدالحميد ود. عماد أبوغازي، والخبير بالشئون الإفريقية د. السيد فليفل وعدد من أساتذة المعهد. وأكد الباحث أن الموضوع جاء استجابة للتحديات التي تتعرض لها مصر على الساحة الدولية والإقليمية والداخلية والتي تؤكد مدى أهمية القارة الأفريقية لمصر، وأولوية المدخل الثقافي كجزء من عناصر القوى الناعمة لعلاج أزماتنا الدبلوماسية، ثم تأتي العناصر الاقتصادية والعسكرية للدولة من منطلق أن "الثقافة تثقف السياسة" . كانت إفريقيا محط اهتمام مصر منذ العصر الفرعوني ومرورا بالعصرين المسيحي والإسلامي وتركز الاهتمام بالدين والتجارة والشئون العسكرية ومياه النيل، لكن تباين هذا الاهتمام من عصر لآخر، وقد ركزت الدراسة على الدور المصري الكبير بإفريقيا بعد ثورة يوليو 1952، من افتتاح مراكز ثقافية وبث إذاعات موجهة والأهم مساندة الشعوب على التحرر، ولكن الباحث لاحظ أنه الاهتمام نبع من الزعيم جمال عبدالناصر ولم يتحول لاهتمام مؤسسي، و الدليل أنه بعد نكسة يونيو انحدر هذا الاهتمام لدرجة كبيرة. لقد تراجع الاهتمام بإفريقيا كثيرا في عصر السادات وشكلت معاهدة كامب ديفيد منعطفا خطيرا في تاريخ العلاقات العربية الإفريقية، ثم بدأ الرئيس مبارك في استعادة الاهتمام بإفريقيا وإن كان اهتماما باهتا ببعض المراحل، وعلى أية حال فقد عاد المنحنى للهبوط بعد حادث أديس أبابا الذي كاد يودي بحياة مبارك واعتبرها مؤامرة إفريقية ضده! ويلاحظ الباحث أن المؤشرات الحالية تعطي تفاؤلا بعودة مصر لأحضان إفريقيا مع تولي المشير السيسي سدة الحكم، وما نشهده من انفراجة نسبية بالعلاقات مع إثيوبيا والسودان وغيرها من دول حوض النيل. الرسالة استهلها الباحث بالآية الكريمة : " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " وأهداها في لفتة إنسانية لوالدته التي تحملت كثيرا من أجله ، قالها باكيا داعيا لها بالشفاء، كما شكر أبيه الذي دفعه للعلم ، وزوجته الباحثة التي عضدته في كل المواقف الصعبة. عودة الروح اقترحت الدراسة تدشين مركز دولي مقره القاهرة لشئون مصر والقارة الإفريقية، يدرس عبر خبرائه كافة المشكلات الراهنة التي تجمعنا بالقارة السوداء ويضع لها حلولا، كما يقوم على دراسة الشخصية المصرية في ظل العولمة وتحولاتها وسبل حفظ هويتها وخصوصيتها ، ويقدم أنشطته في كافة ربوع مصر من أجل التنوير عبر قصور الثقافة ومراكز الشباب والجامعات ونحوها . وبين الاقتراحات : زيادة الاهتمام بالمهرجانات الثقافية التي تجمعنا بالأفارقة في القاهرة والعكس ، بدعم من اليونيسكو، وتفعيل فضائية إفريقية من قلب القاهرة وهو مقترح تقدم به الرئيس الأسبق حسني مبارك لقمة سرت 2005، ولكنه لم يتحقق على أرض الواقع . وركز الباحث على ضرورة استلهام التراث المتسامح دينيا للديانتين الإسلامية والمسيحية بالقارة الإفريقية كعنصر فعال في شد عرى الترابط بين الدول والشعوب والاعتماد في ذلك على خطاب الأزهر والكنيسة . أما السينما والأدب والفنون فيمكن استلهامها كعنصر ثقافي فعال لمخاطبة الشعوب بقضاياها، ودعا الباحث كذلك لتفعيل الترجمة بين الطرفين، وعودة المنح التدريبية التي كانت تقدمها مصر للأفارقة في مجالات الزراعة والطب والآداب وغيرها. نظرة علمية اعتمدت الدراسة في منهجها على نظرية الدور ومقولاتها في العلاقات الدولية. كما قسمت إلى مبحث تمهيدي: تناول مفهوم الثقافة وعناصر الدور، وأربعة فصول تناول الأول: الصلات والروابط التاريخية الثقافية بين مصر وأفريقيا، وتناول الفصل الثاني: الآليات الحكومية وتوظيف الثقافة المصرية في أفريقيا، وتناول الفصل الثالث: الآليات غير الحكومية وتوظيف الثقافة المصرية في أفريقيا، أما الفصل الرابع تناول: التحديات والمعوقات الداخلية والخارجية، وخاتمة حملت رؤية مستقبلية ومقترحات لإمكانية تفعيل البُعد الثقافي للدور المصري في أفريقيا. وركزت المنصة المحكمة للدراسة على ضرورة زيادة المراجع العربية والأجنبية وضبط العناوين ودعوا الباحث لتنقيح بعض المفاهيم والمفردات وزيادة النفس التحليلي للمعلومات، كما انتقدوا اللجوء ل"مركز الجزيرة للدراسات" خاصة الدراسة المنشورة تحت اسم "ثلاثون عاما من حكم مبارك .. القوى الناعمة بمصر "أزمة النظام القوي والدولة الضعيفة" ، برغم كونها دراسة أعدتها أستاذة علوم سياسية بجامعة القاهرة ونشرت قبل الثورة . ركز المحكمون أيضا على قيمة الإرادة السياسية لدفع أي تعاون جاد مع القارة السمراء، معتبرين أن هذا العنصر يسبق في أهميته العناصر الأخرى كغياب الرؤية والموارد والوعي لدى الساسة والنخب عموما في إفريقيا. ودعا الأساتذة المحكمون لعدم الاعتماد على إطلاق الشركات كعنصر فعال بالقوى الثقافية الناعمة، لأن رجال الأعمال ليسوا دائما من ذلك النوع المؤمن بالمشروعات القومية . وبرغم ذلك، أشادت المنصة المحكمة بالرسالة ووصفوها بأنها جديرة بالاقتناء ، بل وأنها ترقى لرسائل الدكتوراه ، وأشادوا باللغة المنضبطة العلمية التي كُتبت بها الرسالة ، برغم كون الباحث شاعرا، والجهد الصادق بإيراد الوثائق والمعلومات ، ما استحق عليه حصول الدرجة العلمية بامتياز . واختتم رئيس اللجنة بقوله أن الساسة الغرب والأمريكيين بالتحديد لا يمكن اعتماد مقولاتهم على عواهنها بلا فحص، فما يكتبه جوزيف ناي من تعريفات لطيفة للثقافة، لم يتحول لسلوك أمريكي ، فلا تزال الغطرسة أو الاعتماد على القوة واحدة من خطايا أمريكا السبع ، ولا تزال أمريكا تطوع العولمة لنشر فكرة نفوذها عبر الأفلام والإعلانات ، والعالم حين يسير بركابها يكون بدافع الخوف لا الإيمان بمصداقيتها، ونرى الأدوار التي مارستها أمريكا وإسرائيل بدول حوض النيل، وهي أدوار مشبوهة تهدد أمن مصر القومي . تجربة حية في تصريحاته ل"محيط" أكد الباحث أحمد عجاج أن وزارة التعليم العالي، وبالتحديد إدارة البعثات التي تتبعها المراكز الثقافية بقارة إفريقيا تسببت بتعطيل دراسته كثيرا برغم أنه طالب بجامعة القاهرة وحاصل على الموافقة الأمنية للوثائق التي طلبها، والغريبة أنها معلومات متاحة على شبكة الإنترنت! ومع ذلك يصر الموظفون على تعطيل أي معلومة تفيد الباحثين. وقد عرض صاحب الدراسة مشروع مركز القارة الإفريقية على وزراء ثقافة سابقين، ولم يجد غير التجاهل، أو التعلل بالميزانية والهيكلة، لغياب الإيمان بأهمية إفريقيا لمصر ،ولم يبدأ الاهتمام بالقارة السمراء إلا بعد أزمة مياه النيل الأخيرة مع دول الحوض وفي قلبها إثيوبيا، وهنا بدأنا نرى مهرجانات ذات طابع "كرنفالي" لا يحضرها سوى الباحثون ويرددون الأوراق لبعضهم، في غياب لأي تفعيل للتوصيات على أرض الواقع. وعلق على أداء المراكز الثقافية بإفريقيا بقوله أنها لا تفعل شيئا، ومن يعملون بها يتقاضون مبالغ لأنشطة معظمها وهمية، فبعضها تابع لوزارة التعليم العالي وبعضها تابع لوزارة الأوقاف، وكلاهما "شبه ميت" ، وانتقد عجز الأزهر عن القيام بدوره التنويري للطلبة الأفارقة والذي كانت مصر تقوم به في الخمسينات، فكانت إلى جانب دورها السياسي تنشر البعثات وتستقدم أخرى ، وهو ما يتذكره الأفارقة حتى اليوم، ولكننا أضعنا فرصة استثماره . سألناه عن ماهية الدور الذي يمكن أن يكون فعالا في إفريقيا، ومدى الحاجة لإشراك المجتمع المدني، وقال أن الدولة لديها من الإمكانات ما يعزز قدرتها في التوجه لإفريقيا عبر برامج منظمة تستوعب حاجة السكان بكل بلد، وتقوم على دراسة شخصية المصريين بطبقاتهم المختلفة والتوجه لهم في أماكنهم بما يعزز الصلات مع إفريقيا، وأن ذلك كان مشروعه الذي طمح لتحقيقه عبر سنوات طويلة. واعتبر الباحث أن المجتمع المدني يحتاج لرقابة على أنشطته بإفريقيا لأن بعض جهاته ممولة من جهات غربية مشبوهة. واتفق الباحث أخيرا على أهمية الخروج من عباءة توجهات الزعيم، لتحل محلها توجه الدولة كمؤسسات، فعبدالناصر حين اهتم بإفريقيا ذهب الاهتمام بموته، وظل اهتمامنا يتناقص حتى وصلنا لدرجة شبه صفرية بعد حادث مبارك ! ولكن لحسن الحظ لا تزال وفود الأفارقة لمصر في تزايد في حنين صادق لدور مصر العريق.