في ركن من منزله المتواضع، شرع عبد الكريم كوتي في تصفيف "السمار"، وهي عشبة تنبت على ضفاف الأودية، وتجفف لتصبح مادة أولية يصنع منها القفاف (السلال). بعد تصفيف "السمار" يضعه الأربعيني التونسي، الذي يعاني إعاقة في قدميه تمنعه من الحركة، في قدر على النار، ويصبغه بألوان مختلفة قبل أن يجففه، ثم يجدله ليحصل بأصابعه الرشيقة على ضفائر متتابعة تصبح "قفة" إثر خياطتها. عبد الكريم يُعرف في منطقته، "دار شعبان الفهري" بمدينة نابل (شرق)، بصناعة "القُفّة النابلية"، التي يتشبث بها تونسييون، فرغم غزو الأكياس البلاستيكية للأسواق، إلا أن "القُفّة" لم تفقد بريقها، فهي حاضرة تقريبا في كل منزل تونسي. هذه السلال يتزايد استعمالها في شهر رمضان، الذي يحل بعد حوالي شهر ونصف الشهر ويعود فيه التونسييون أكثر إلى استحضار تقاليدهم وعاداتهم، فضلا عن كثير من المناسبات التونسية، مثل الأعياد والزيارات الأسرية ومواسم أعراس. وفي صناعة هذه القُفّة، يقضي عبد الكريم، وهو متزوج وتعمل زوجته في جني النارينج، أغلب ساعات يومه دون كلل ولا ملل في غرفة صّغيرة من منزله. وبين أدوات عمله البسيطة، يقول عبد الكريم لوكالة الأناضول: "أشعر بقلق كبير إذا ابتعدت عن عملي هذا، فصناعة القُفّة تعني لي الكثير، فحتى في أيام راحتي أجد نفسي وقد تسللت إلى غرفة العمل غير قادر عن الابتعاد طويلا عن حرفتي". عبد الكريم، الذي يعمل في هذه الحرفة منذ 30 عاما، يحاول التنويع في منتجاته، فيصنع القُفّة التي عادة ما تستعملها العائلة التونسية لوضع مشترياتها فيها بطريقة صحية، على خلاف الأكياس البلاستيكية (يصنع معظمها من خامات غير صحية)، وعدد من حقائب اليد النسوية، فضلا عن أبسطة يسميها التونسييون "الحصيرة"، وعادة ما يتم استخدامها لتفرش في المساجد أو توضع على الحائط وتستعمل أيضا كسجاد لأداء الصلاة. منتجات عبد الكريم، على حد قوله، "يتزايد عليها الطلب يوما بعد آخر.. أتعامل مع محلات في محافظتي وخارجها.. أتقن عملي فهو كل حياتي، وأنتج من 15 إلى 18 قفة في الأسبوع". ويبلغ ثمن القُفّة في المتوسط، بحسب مراسلة الأناضول، حوالي 15 دينارا تونسيا، اي ما يعادل نحو 8 دولارات أمريكية. وفي عام 2001، بدأ عبد الكريم مشروعه الخاص بفضل حصوله على منحة من برنامج حكومي لمساعدة من يعانون من إعاقة، تتمثل في مواد أولية تمكنه من صناعة "القفاف"، وفي العام التالي، حصل على قرض ثان من برنامج جكومي آخر لدعم موارد الرزق. عبد الكريم، الذي شارك في العديد من معارض الصناعات التقليدية، يقول إنه قضى ما يفوق عن 30 سنة في هذه الحرفة، التي ورثها عن خاله منذ كان عمره 17 سنة، لينتقل فيما بعد إلى العمل بمفرده ويطور في حرفته شيئا فشيئا. وللقفة تاريخ في تونس حيث بدأت صناعتها من سعف النخيل قبل أن تصل إلى مرحلة السمار. ووفقا لأستاذ التاريخ المعاصر في الجامعة التّونسية، يحيى الغول، فإن "ميزة القُفّة النابلية تكمن في المادّة الأولية التي تحاك منها القفاف وهو السمار.. هو نبات طبيعي يوجد على ضفاف السباخ (تشبه برك المياه) والأودية، ويتم حفظه في بداية فصل الصّيف، ومن ثم تلوينه وصبغه من قبل الحرفيين". الغول يتابع، في حديث مع وكالة الأناضول، أنه "في التراث القديم كانت القُفّة التّونسية تصنع من سعف النخيل، إلا أنه في عام 1947 تم تأسيس ديوان الفنون التونسية الذي اعتنى حينها بِالصناعات التقليدية، وقام بتطوير بعض الصناعات ومنها الحصير والقفة المصنوعة من السمار". ويختم الأكاديمي التونسي بأنه "في الستينات والسبعينات (من القرن الماضي) كانت القُفّة تستخدم في وضع المشتريات من خضر ولحوم، ومع بروز الأكياس البلاستيكية أصبحت القُفّة تعتمد لأغراض أخرى مناسباتية بالأساس، مثل الزيارات العائلية الخاصة".