لقد رسخ الإسلام مبدأ وقيم التعايش والمواطنة منذ أربعة عشر قرنا; وتجسد ذلك فيما قام به رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في وثيقة المدينةالمنورة التي نصت علي التعايش والمشاركة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد دون النظر إلي الانتماء الديني أو العرقي أو المذهبي أو أي اعتبارات أخري, ومن ثم فهذا عقد اجتماعي من العقود والعهود المشروعة التي يجب الوفاء بها. فالمواطنة وإن بدت مصطلحا حديثا ولكنها بالأساس مبدأ إسلامي أقرته الشريعة الإسلامية, وهي في صورتها المتفق عليها معمول بها في دساتير العالم الإسلامي وقوانينه, ومنها الدستور المصري الذي ينص في المادة الثانية منه علي مرجعية الشريعة الإسلامية, فالإسلام يدعو إلي التعايش والتماسك بين طوائف المجتمع, والبناء علي الأسس المشتركة ونبذ العنف والفتنة بين رعايا الدولة; قال تعالي:( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). فقد جعل سبحانه التعددية سببا دافعا للتعارف والتواصل لا للتصارع والتقاطع, ويقول سبحانه:( ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين), فأمر عز وجل بدعوة الآخرين إلي سبيل الرشاد بالكلمة الحكيمة التي تستنير بها العقول, وبالموعظة الحسنة التي تهتز لها القلوب, وإذا تطلب الأمر الجدال لإظهار الحق فليكن بالتي هي أحسن; حتي لا يؤول إلي التعصب الأعمي والبغضاء. فنظام الدولة في النسق الإسلامي يأمن فيها أصحاب الديانات السماوية علي حريتهم التامة في البقاء علي عقائدهم وشعائرهم كما أثبت ذلك التاريخ الطويل لتعايشهم مع المسلمين علي مر العصور في الأوطان الإسلامية. وضرب الله لنا مثلا يحتذي في الدعوة إلي البناء علي المشترك المتفق عليه, فيقول سبحانه:( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم), وتطبيقا لأسس الاتحاد علي المشتركات بصورة عملية نجد نموذجا لذلك في قوله تعالي:( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن). وبين سبحانه وتعالي أن التعايش السلمي الذي مبناه المودة والعدالة هو الفطرة التي تنزع إليها طبيعة المؤمن ولا تتعارض مع الدين, فيقول تعالي:( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). ولعل وثيقة المدينة التي وضعها رسول الله عليه الصلاة والسلام قد أسست للعيش المشترك بين أبناء الوطن الواحد علي اختلاف عقائدهم, بعيدا عن التعصب وذلك لقوله صلي الله عليه وسلم: ليس منا من دعا إلي عصبية, وبينت الأسس والمبادئ الحاكمة للدولة, وكان مبدأ التعايش من أول هذه المبادئ التي نصت عليها الوثيقة, فلم تعرف الإنسانية قبلها نصا مثله في التأسيس للعيش المشترك بين أبناء أمة واحدة رغم اختلاف صنوفهم, ولقد تجلي فيها مبدأ التعددية وقبول الآخر المختلف حتي في الدين والعرق والثقافة. وقد حضت الوثيقة علي أخلاقيات التعايش المشترك, ودفعت المواطنين لممارسة هذه الأخلاقيات والتي منها البر في غير إثم والتناصح والتناصر, وأوجبت علي الجميع نصرة المظلوم, وأرشدتهم إلي التعامل فيما بينهم بالفضل والمعروف اللذين يعتبران دعامة قوية في جسد الأمة, فكان فيها إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. ولقد أقر رسول الله عليه الصلاة والسلام التعددية الدينية في الوثيقة بأن للمسلمين دينهم ولغيرهم دينهم, لكنهم جميعا أمة واحدة في السياسة والقانون. ولم تتوقف وثيقة المدينة وهي تضع دستورا عظيما سيبني عليه المسلمون دساتيرهم علي الفروع والجزئيات والأحكام الظنية أو التفصيلية والاجتهادية, والتي شأنها شأن الفتوي, تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص, إنما راعت المقاصد العليا للشريعة الإسلامية, التي تحفظ علي الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأولادهم وأموالهم, والتي ما إن تحققت في مجتمع أو أمة إلا وأنعم الله علي أهلها بالأمن والأمان والاستقرار. ولقد اشتملت وثيقة المدينة علي ما يزيد علي خمسين بندا أسست لمجتمع تعظم فيه الشرائع, وقيم التعايش وحقوق المواطنة والسلم الاجتماعي, أضف إلي ذلك حقوق التملك والتنقل وحقوق الإنسان وغيرها من الحقوق, ولم تظهر فيهم العصبية لشريعة علي حساب أخري, بل كان الجميع يعمل تحت ظل معاهدات تحقق تحتها العيش الكريم والأمان علي الأنفس والأموال والأولاد والأعراض. لذلك قال المستشرق الروماني جيورجيو في كتابه( نظرة جديدة في سيرة رسول الله) عن هذه الوثيقة: حوي هذا الدستور اثنين وخمسين بندا, كلها من رأي رسول الله, خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين, وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخري, لا سيما اليهود وعبدة الأوثان, وقد دون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخري بالعيش مع المسلمين بحرية, ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم, ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء, وضع هذا الدستور في السنة الأولي للهجرة, أي عام623 م, ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده. نقلا عن " الاهرام" المصرية