الأديب لمحيط : نطقت الشهادتين حين شاهدت الموت رواية تطرح تساؤلات خلود آدم ومعنى الخلافة في الأرض الله يحب من يعرفه بالعقل .. هكذا فعل إبراهيم ومحمد هجوم على المتاجرين بالدين والدراويش لماذا عمقت الرواية من الفتنة الدينية واصطفت المجرمين؟! "أنا معظم الله الذي منحنا الحياة .. ومذل الداعين إلى استعذاب الموت .. منحني الله نبع الخلود .. وأذن لي في سقيا المتنورين بالعقل .. ووهبني قلبا من حديد .. أقسو به على كل من لا يؤمن بقدرته على الخلود " هكذا يردد "صنع الله" على أسماع الخلائق الذين جمعهم القدر به في سيارة أجرة أقلتهم لحتفهم جميعا بعد "انحراف حاد" لا يزال غير مفهوم .. وتركز روايات الأديب أشرف الخمايسي على ثنائية الموت والخلود، فقد كان "عجيزي" بطل رواية "منافي الرب" يكره المقابر ودفن الأحباء بعد موتهم تحت التراب، ثم تتطور فكرة الموت في الرواية الجديدة للأديب، والتي رشحت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية هذا العام، لنجد الأديب يبشر بخلود البشرية وتمكن العلماء من فك شفرة الموت ومن ثم بناء الإنسان لفردوسه الأرضي ! ورغم ما قد يثار حول تلك الفكرة عقائديا، لكن الأديب بدا مصرا عليها، وقال لنا : حتى الآن أنظر لقضية الموت باعتبارها ليست حتمية، فالإنسان خليفة الله على الأرض، وحتما سيبتكر من الوسائل ما يعينه على هزيمة الموت! والموت معادل موضوعي لنهاية الأشياء وذبولها وخفوت شعلتها المضيئة، ولهذا كرهه الإنسان، وسينهر "صنع الله" في الرواية ذلك الراهب الذي أتى للصحراء ناسكا في الدير، فإذا بقدميه تقودانه لكنيسة لا يراها سواه، يستمع لأنين أحد المعذبين، ولم يكن سوى مسيحي آمن بنهايته وموته .. وسيتكرر الأمر ذاته في الرواية مع الشيخ غريب الذي أصر على موت الإنسان فيفاجأ بصفعة مدوية من النبي المزعوم "صنع الله" الذي جاء مبشرا بخلود البشر ! هل يقصد الخمايسي هزيمة الموت بالمعنى المادي أم الفلسفي، وهل ثمة نعيم في خلود على سطح هذا الكوكب المتوحش ؟! سألت الخمايسي ، وواصلت الدهشة : لماذا كبلت إنسانك في سجن الدنيا، والله منحه ملكوتا في أعلى العليين ، يسبح كما الطير ويرى بفؤاده ما لم يخطر على بال ، أما النيران فيمكنها أن تلتهم من زادت خطاياه وعمت فلم يعد هناك سوى التطهير من الآثام ؟! وقلت له أن الموت وعد محقق بحكم القرآن الكريم ، والذي هو كلام الله سبحانه، فلماذا التشكيك ! .. وكالعادة لم يعترض ، ولم ينكر ولم يجادل، فقط أراد مساحة للتفكير على الورق، ورأى أن في ذلك حق أصيل له، لأن أثمن ما في الإنسان عقله، وقال بوضوح : ضبطت نفسي متلبسا بنطق الشهادتين بعد أن خيم شبح الموت فوقي ، على إثر حادثة تصادم قريبة، فالله في قلبي، وكوني أفكر وأناقش أدبيا بعد الأفكار الفلسفية لا يعني أنني قد كفرت كما يحلو للبعض أن يروج، ولا يعني أنني معادٍ للشريعة في شيء، فأنا مؤمن مؤمن ومستقر قلبي بالإيمان .. ! وزاد بما أكد حدسي بأنه يتساءل أكثر منه يجيب عن فكرة "هل يحتاج الإنسان للخلود؟" وهو لم ينتصر لرأي محدد بالرواية، وتستمع لمن يصرخ قائلا بلهجة تناسب عامة الناس :" البلاوي دي مش موجودة عشان الموت موجود ياراجل يا طاسة .. دي موجودة عشان البني آدم موجود ..إحنا يابني ربنا خلقنا من طينة معجونة بالظلم والطمع .. وإذا كنا يا دوب عشان هانعيش خمسين أو ستين سنة القلق راكب قلوبنا وخايفين م اللي جاي هانعمل إيه ف نفسنا بأه لو عرفنا اننا مش هانموت أبدا ؟" دعنا من الأديب .. الرواية مؤلفة من 400 صفحة من القطع المتوسط، كتبت بلغة عذبة ، وقسمت بطريقة المشاهد السينمائية الخاطفة ، تبدأ برحلة من القاهرة لأسيوط، ولا تنتهي إلا بالسيارة الميكروباص مستقرة في قاع النهر، فإذا بكل بطل من أبطال الرواية يتمثل حياته في هيئته بعد الممات .. بعد أن يذكرك الراوي بأن الشمس لا تشرق بهذا الانتظام الدقيق لتمنح الآدميين دفئا أو ضوءا ، وإنما لأمر أجل من كل ذلك، يسلط المصباح في وجه "صنع الله" ذلك الشيخ الفارع ذو اللحية المتدلية حتى أعلى سرته، والعمامة الخضراء الضخمة، والجلباب الأبيض الذي يغطي منتصف ساقيه بالكاد مع نعلين عتيقين ، هيئة عربية قديمة، تصلح لرجل يدعي أنه نبي قديم ! ربما من زمن موسى عليه السلام، كما تخبرنا أسطورته، وبرغم أنه سيظل نائما طيلة الرحلة، لكن الحقيقة أن الرجل تجول والتقى كل أبطال الرحلة، ليخبرهم بحقيقة الحياة .. لغة الأقدار سيبدو صنع الله كمجنون يلتقي "زياد" في حي السيدة زينب، وزياد لم يكن بحاجة لمن يزيد تشككه، فهو شاب جامعي مثقفي لديه اهتزاز عقيدي واضح، بدليل أنه أخبر صاحبته بأن المعجزات والشياطين تشبه حكايات الطفولة لا أكثر، هو يرمز إذن للإنسان المادي الأقرب للإلحاد، وذات يوم سيقرأ ما خطه المجنون بأن الاستنساخ بوابة الخلود ، وأن حلم الإنسان قرب على التحقق مع العلم ، وأن آدم فكرة إلهية ، والله القوي خلق أصحاب العقول ليحققوا الخلافة ، وبرغم إيمانه بصدق دعوة الأنبياء والرسل جميعا لكنه يحذر مما نقله عنهم الأحبار والكهنة والأئمة، الذين تاجروا بفكرة الموت لتحقيق سلطانهم الأرضي . سيشتبك "صنع الله" أيضا مع المقاول "رشيد" سيكون ذلك في غفوة بين اليقظة والمنام، حيث ينبلج ضياء أبيض مبهر، وينعكس على هذا الرجل الذاهل البائس، لقد ذهب يشكر الله أن وهبه ابنته "زينب" بعد طول عقم، وبينما هو يعلق نظره في سقف ضريح الحسين، إذا بالصغيرة تتحرك في دوامات الملبين الذاكرين حول الضريح، والذين ينادون الله بالمدد، ويتطوحون بقوة. خرجت الصغيرة فالتقطتها إحدى اللصوص، وحجبتها عن أبيها. ويمكن أن تدرك عمق تجربة الألم النفسي وأنت تتابع صفحات الأديب الذي خط ببراعة مطلقة مشهد الأب المكلوم والذي فقد ابنته في الزحام، حتى إنه حين تصادف عيناه عيناها في الزحام لا يدركها، فقد كان يتطوح من فرط الألم ، وينادي الله وهو ناقم عليه يشعر بأنه حرمه النعمة وهو يشكره ببيته ! وإذا الكون حزين، والمئذنة تشبه نصل الخنجر الذي يقتله، و"هل يمكن أن يعيش من ينتزع كبده نهشا"! لكن صنع الله سيواجهه بالحقيقة : لقد أعماك الحزن ، رحت تبحث عن الشكل ونسيت الجوهر. إن شكر النعمة في صونها لا تركها .. درس إنساني بليغ .. بالمناسبة، المأساة لا تنتهي عند هذا الحد، فالابنة ستعرف طريق البغاء بعد أن صارت "ابنة شوارع" رسمية، وحتى حبيبها الوحيد سيقتله أمامه من اغتصبوها من المارقين، وستبتلى بفقد رضيعها "من الحرام" وهو ابن سائق الميكروباص "أبو أميرة" . ويتحفك الخمايسي حين يكتب "ذاكرة الطفولة في قعرها ثقب واسع، تسقط منه كل الأحداث الصغيرة العادية، بينما تنحشر فيه اللحظات العميقة الكبيرة فلا تسقط أبدا لكنها تبقى على حد الألم كلما ارتجت الذاكرة وخدشها هذا الحدث، فتشع طازجة تماما وكأنها لم تذهب بعيدا في مجرى الزمن".. ستسرق إحدى اللصات رضيع سوسن وهو بعد مربوط بحبلها السري! .. وبرغم أن "سوسن" التي كان اسمها "زينب" في طفولتها، برغم أنها ستمس الولد بيديها في الميكروباص، لكنها لن تجرؤ على انتزاعه من أمه المدعية ، لقد فات الأوان !! وربما تكتمل فصول المأساة حين نشاهد نهاية الرواية والطفل الذي لم يبلغ من العمر سوى عامين، رأسه تسقط في حجر السائق ، الذي تنكر له، وجسده يحتضن أمه الحقيقية التي هفا صدرها لإرضاعه واحتوائه .. شيخ وقس ونصاب! الميكروباص يقله شيخ وقسيس، وكلاهما بدا في الرواية تساوره الظنون والشكوك ، بغير أن يجهر بذلك، والظن يكمن في الطبيعة البشرية للأشخاص المقدسين، ففي حالة الشيخ لم يكن يفهم معنى أن يكون نبي الله يوسف عليه السلام بصحبة امرأة تناديه "هيت لك" ، فيما كان القسيس حائرا في الطبيعة البشرية للسيد المسيح ، والذي يأكل ويخرج ، كما البشر، وكيف يكون ابنا لله مع ذلك، بحسب معتقده . وينتهي الإنسان بشكل مؤسف يشبه مقولات آباء الثورة الفرنسية العلمانيين ؛ فالحديد يخترق كبد هذا ويسبل عين ذاك! ويظل صنع الله يعذب في الذين يجادلونه بحتمية الموت، وهو يتذكر أن الله يخبر عباده بأنه ما وسعته سماؤه ولا أرضه ولكن وسعه قلب عبده المؤمن .. وأن الله اختار أبو الأنبياء ابراهيم لنطلب منه السلام على روحه لأنه عرف الله بالعقل، وهكذا فعل محمد خاتم الأنبياء عليهم رضوان الله أجمعين. ويشع النفس الصوفي من ملحمة الخمايسي، تتنفس كلمات المديح والإنشاد الذي يحتوي العابدين أمام ساحة الحسين، كلمات بن عطاء الله ونحوها، ويتجلى ذلك على لسان صنع الله حين يقول "تنال الخلود بتمام معناه إذا استطعت الصبر على قطع المسافة من الانتظار للنظر" وحين يأمر النصاب "حميد المجري" بعدم الالتفات ، تتذكر أقوال العارفين، لكن ثمة علامة تعجب كبيرة من روائي يجعل النصاب نبيا! ويجعله يرى النبي يأمره بأن يلزم صنع الله ، وهو الذي لم يتلبس إلا وهو يدبر مكيدة للشرطة ويخرج من واقعة سطو لواقعة فعل فاحش، فهل تكون تلك النفوس الدنيئة أهلا لدعوة صادقة!! ربما تندهش إذا ما صادفت أفكارا مغايرة للعقيدة عن الشيطان الأسطورة الذي صنعتها البشرية لتحملها آثامها، ولكنها تبقى على لسان صنع الله المختلف بهيئته وفلسفته من البداية. الفتنة النائمة العريف ياسر مبروك نموذج للقهر المجتمعي، فهو يسقط ضحية افتراءات القيادات بالوحدة العسكرية، وهو عسكري التحويلة البسيط، ولكنه يأبى أن يهينه أحدهم بأمه، ويتعرض لمحاكمة عسكرية، لكن الراوي يجعله خائنا أيضا، يجامع زوجة أحد أبناء بلدته، أو الرجل ذو الوجه الثعلبي، يفعل ذلك برضا ومباركة العشيقة الخائنة والتي ينتهي أمرها مذبوحة بيد زوجها في عمق صحراء القاهرة .. لكن عبر هذا العريف يلج الراوي لمأساة الفتنة الطائفية في مصر، خاصة حين يتذكر نجع الزمانات بسوهاج، وما جرى بين المسلمين والمسيحيين من فتنة بشعة، اندلعت شرارتها بعد أن قتل جرجس الحاج عبدالمطلب ، احتجاجا على إهانة عقيدته وتحديدا فكرة التثليث ووجود يسوع .. وستضرم النيران بكل بيت مسيحي ويصل الحال بالقاتل لأن يحترق داخل الكنيسة ، ويسقط مسيحيين قتلى وجرحى بلا أدنى جريرة ارتكبوها .. لكن الراوي يلمح لاضطهاد الأقلية المسيحية في مصر، وأعمال السخرة التي اعتادوا الوقوع تحت أسرها، وهذا أمر لا نعرف مصدره الحقيقي !! وحين نصل لشخصية أبوأميرة ، سائق الميكروباص، سنصاب بشجن أحاديث إنسانية، عن الفقر وعدم الخلف، وإن غلفها الروائي بقالب كوميدي تمكن من أغلب أعماله، فترى الرجل يقول لنفسه " يا مرآتي .. هل هناك أقبح مني " . وأبوأميرة يتسلل الشك لنفسه هو الآخر بأثر عدم الإنجاب . الطبيعة، ركن أساسي تشتم أنفاسه بالرواية، حين تنصت لصلاة العصافير، أو تنظر لشجرة ترمز لفكرة الخلود، تتسحب فوقها حية ملساء زاهية، ترمز للموت، في طريقها لأعشاش العصافير العلوية . في تقديمه لعمله يكتب الخمايسي : " مغلق عليك في حجرة ضيقة مع شمعة وحيدة مضيئة حتى هذا اللهب الضعيف ، بعد وقت، لابد من أن يذبل، وينطفيء وسيغرقك الظلام بينما وراء الجدران ضوء باهر تفيض به شمس منيرة أبدا حطم الباب واخرج وتنور "