الخمايسي : أكتب عن تصالح الروح والجسد .. وانتصار الحياة برغم الموت الكاتب يقر بأنه خرج من العباءة التقليدية للسلفية وينفي هجومه على المسيحية نقاد يعدون "منافي الرب" فتحا جديدا برواية الصحراء عبدالله الأشعل : الثقافة أملنا بعد أن ماتت السياسة في مصر انتقادات "جرح الشعور الديني" تثير الجدل حول الرواية الإنسان يصنع منفاه ثم يوهم ذاته أن ذلك هو التدين الحق الذي يريده الرب، والحقيقة ان الدين بريء من كل ذلك، ومن يعرفه على حقيقته لن يجد خصاما بين الروح والجسد، فلا حاجة لتعذيب أحدهما ليبقى الآخر .. كانت تلك بعض جمل تحدث بها الأديب المصري أشرف الخمايسي صاحب رواية "منافي الرب" المثيرة للجدل والتي وصلت للائحة الطويلة لجائزة الرواية العربية "البوكر" ضمن ندوة أدبية عقدت مساء أمس لمناقشتها . وقد احتفل بالرواية ملتقى "السرد العربي" بالتعاون مع اللجنة الثقافية لحزب "البديل الحضاري" تحت التأسيس ، في بادرة للاحتفاء بكافة الأعمال المصرية التي وصلت للبوكر والاقتراب منها نقديا، وشارك بالكلمات الرئيسية للندوة التي أقيمت بمكتبة مصر العامة كل من الدكتور حسام عقل، الشاعر السعيد عبدالكريم، الدكتور عبدالله الأشعل، الدكتور خالد البوهي ، الدكتور عايدي جمعة، وتضمن اللقاء إلقاء الإعلامية روايح سمير مقاطع من الرواية بصحبة خلفية موسيقية بأنامل الدكتور رامي مصطفى . إطلالة على الحكاية الرواية تتشكل من 16 فصلا، وتبدأ بالبطل "حجيزي" الذي تربى في بيت يقوم فيه الأب بتحنيط جثث الحيوانات والبشر أيضا، فيتربى بالطفل عقدة خشية الدفن ويعشق الخلود والبقاء، ويبدو هلعه حين يرى رؤية بمنامه تنبئه بأنه ميت لا محالة بعد ثلاثة أيام .. وتدور الرواية حول تلك الفترة وكيف قضاها البطل متنقلا في حيرته بين جيرانه بقرية الوعرة الواقعة بمنطقة الواحات الصحراوية النائية، ورحلته مع الرهبان بحثا عن يقين ينقذه من الدفن .. ثم تأتي لحظات التنوير التي يكتشف فيها حقيقة الحياة والموت عبر حوارات حقيقية ومتخيلة .. يخرج منها بأن السعادة هي جماع اللحظات الصغيرة وليست كتلة واحدة .. وأن البقاء الحقيقي ليس بقاء الأجساد وإنما بقاء الأعمال .. وأن الذكرى حتما تقاوم النسيان .. وأن الحب بإمكانه تحويل الكائنات من العيش للحياة .. وأخيرا يكتشف "حجيزي" قبل أن يقول "احفروا لي قبرا" ويرحل تحت ظل شجرة البرتقال العامرة .. يكتشف أن خليفة الله على الأرض سيظل عليه السعي لإيقاظ القلب والعقل بعيدا عن الأغلال التي قادها البشر زورا باسم "الرب" . تجربة مثيرة في كلمته ، أكد "الخمايسي" أنه ظل منتميا للتيار السلفي نحو ثماني سنوات، واشتبك فكريا مع المسيحيين حول العقيدتين الإسلامية والمسيحية، وأكد أنه ليس صحيحا أن روايته تزدري الديانة المسيحية حين سعى بطل الرواية "حجيزي" لاعتناقها كمذهب ثم تراجع بعد أن اكتشف أنهم يدفنون موتاهم، وكانت لديه عقدة من تلك المسألة ضمن خوفه العميق من فكرة الدفن تحت الارض . واستطرد الكاتب بأنه قرأ الأناجيل الأربعة ووجد أن كلمة "ابن الرب" متكررة ليس بمعنى البنوة الحقيقية بشكل لزومي وإنما بمعنى الخلافة في الارض وهي فكرة تتعانق مع الفكرة الإسلامية . ومشكلتنا كما يراها الخمايسي ليست في الدين قطعا، ولكن فيمن ينقلونه لنا من تجار دين ودعاة وغيرهم وليسوا جميعا مؤهلين لتلك المهمة الجليلة . من جانبه أكد الدكتور عبدالله الأشعل، الدبلوماسي المصري البارز أن السياسة في مصر ماتت ورهاننا الحقيقي هو الثقافة ولابد أن يعود الإعلام للالتفات للقامات الثقافية الحقيقية وبث ثقافة التحدث بالعربية الفصيحة ، وأضاف أن أكبر القوى العالمية قامت السياسة فيها على أكتاف الثقافة وليس العكس . هاجس الحرية الناقد الدكتور خالد البوهي فرأى أن الحرية هاجس لدى الكاتب منذ عمله الروائي "الصنم" وهو بروايته الجديدة "منافي الرب" يرفض تحويل القديسين دور العبادة لسجن يعيشون فيه ونجد أن البطل "حجيزي" هذا البدوي الهرم الذي يبلغ من العمر ثمانين عاما يهرب من فكرة الدفن والوحدة تحت التراب بعد الموت . ويستحضر الكاتب أيضا بروايته كما يشير "البوهي" أفعال المقاومة من خلال تاريخ دخول العثمانيين للبلاد ومقاومة المماليك وخاصة الأمير شقمق، كما يستحضر غزوة الفرس للصحراء. والرواية تقوم على تقنية شبيهة بالمونتاج السينمائي حيث تداخل الأزمنة بين الماضي والحاضر ، وتقنيات الفلاش باك والعودة بمهارة كبيرة، كما أبدى الناقد خالد البوهي إعجابه بإثارة الرواية لجدليات عميقة بالفكر العربي الإسلامي كالقدر والجميل أن يحركها الأديب على ألسنة البسطاء فيما يشبه مقارنة الديانات . خوض التابو بجرأة خاض أشرف الخمايسي كل ما يمكن أن يخشاه أديب في روايته من محظورات ، وهي ميزة كما يعبر الشاعر الدكتور إيهاب عبدالسلام، والذي اعتبر أن الكاتب يعيد افتتاح رواية الصحراء التي دشنها رواد ومنهم صبري موسى في "فساد الأمكنة" وفاق في فنيات الكتابة ما وضعه الدكتور يوسف زيدان في روايته "النبطي" من تجسيد للصحراء وناسها .. ولكن الناقد الأدبي عاب على الروائي جرح الشعور الديني للمسلمين في عبارات عديدة جرت على ألسنة الأبطال . الإنسان والجدليات العملاقة من ميزات الرواية، التركيز على الإنسان، وربما ذلك أحد أسرار وصولها للائحة البوكر، كما يعبر الدكتور عايدي جمعة، الناقد الأكاديمي، والذي أكد أن هناك أعمالا عديدة تعد من الروائع ولكن لا يمكن ترجمتها بسبب ارتباطها ببيئتها بشكل لا يسهل لأي متلق حول العالم الاستمتاع بها وتأملها، وهو يشير إلى أن "منافي الرب" تنتمي للأدب الطبيعي الذي يجسد كل ما فيها. القلق الوجودي وفكرة "ما بعد الموت" من أهم تيمات الرواية ، حتى أن الشخصية المحورية تموت بعد أن تأخذ وعدا بأن يكتب عن ملحمتها، وهي وسيلة بقاء الإنسان الحقيقية كما يكتشف "حجيزي" ، فبقاء الجسد ليس عبرة بل قد يتحول لمدعاة للسخرية، ولكن بقاء الأعمال والآثار التي خلفها الإنسان هو وسيلته لمقاومة النسيان. والرواية ، كما يرى الدكتور عايدي تجسد أيضا أزمة فكرية ودينية خطيرة وهي جدلية النقل والعقل، وهي رواية لأبطال يعيشون على الحافة بين الحياة البشرية وحياة الصحراء في امتداداتها، حتى البطل نجد أنه شبه عاقل ويتجاوز المائة من عمره فهو يعيش على الحافة ويتفوه بألفاظ مثلا لا تليق ببيت الله ، وهو ما يجسد حالة التيه التي يعيشها بحثا عن الخلود . أزمة العقيدة والمرأة تمتاز الرواية بأن أديبها يقود أبطالها وليس العكس، كما يرى الشاعر السعيد عبدالكريم، وهو يضع روايته على هامش المعتقد وفي مطلق الحرية، ويستدعي الناقد مقولة بن المعتز "كلما طال البعد زادت روعة النص" وهو ما فعله الخمايسي حين نقل لنا أجواء بيئة عاش فيها وعايشها. وعاب "عبدالكريم" على "الخمايسي" صياغته في الفصول التي تعلقت بالدين والعقيدة بالأخص، ولم ينف عنه كونه مبدعا كبيرا قرأ له منذ عمليه "الصنم" و"الفرس" . وعاب الناقد أيضا على الكاتب صورة المرأة التي تنحاز لصورتها بأدب نجيب محفوظ أو تغرق في الرمزية . رحلة الشك نحو اليقين "منافي الرب" تذكرنا ب"المنقذ من الضلال" للإمام الغزالي، هكذا يرى الناقد الأكاديمي الدكتور حسام عقل ، مضيفا أنها رواية سيرة ذاتية روحية ، يعيش صاحبها "حجيزي" باحثا عن حقيقة الإيمان ، ويشرد ذهنه بين سلوك الشيخ مزيد بقريته الوعرة وسلوك الراهب "يؤانس" الذي يجافي الحياة ويزهد فيها، وهو يطرح هنا فكرة الشك وصولا لليقين. والرواية، كما ينظر "عقل" كبيرة حجما نسبيا ولكنك لا تشعر وأنت تقرأها بلحظة ملل واحدة، ذلك أن الراوي بارع في نحت شخوصه ودفعها نحو الشلال بحيث لا تتوقف لحظة . ويرى الناقد أن البطل بالتحديد يعيش حالة من رهاب الدفن بعد الموت، وهو ما يذكر بكتابات يحيى حقي عن أمير الشعراء الذي كرس نصف أشعاره عن الموت والرثاء للراحلين. ويعجب "عقل" بممازجة المتخيل والواقعي بالرواية وتنويع التعبير على لسان البطل والراوي ، ويدلل بأن حجيزي بطل الرواية نجده بالصفحات الأولى يشعر وكأنه يستمع لأذان الفجر يقول "الصلاة خير من الموت" وليس "النوم" ولا يعثر القاريء على حقيقة الأمر بسهولة في الرواية ، هل ما يجري رؤى متخيلة أم حقيقة ، فيتعايش مع حيرة البطل . من أسرار فتنة الرواية كما يؤكد "عقل" إبداع كاتبها في وصف المكان، وقد تفوق في ذلك على "واحة الغروب" لبهاء طاهر، كما أعجب الناقد بالوصف المدهش فالنيران التي أحرقت بيت سعدون تشبه الأفاع العظيمة التي تلتهم كبد السماء. وأبدى حسام عقل إعجابا بخفة الظل المصرية البادية بالرواية ، كأن تجد البطل يشبه صاحبيه ب"عنزة تستند لجاموسة" ونجده يشتبك مع غنيمي ثم يعودا صافيين بعد قليل. أما الزمن بالرواية فالمفردات المعبرة عنه عدائية تماما . وعبر الناقد عن إعجابه بمزج الجسدي (الإيروتيكي) بالميتافيزيقي بالرواية وهو يقول لا كان البطل قديسا ولا ملاكا ، والحنين للبطولات التاريخية من جهة أخرى . من المشاهد المؤثرة بالرواية، ذلك المشهد الذي تحترق فيه جثتي بثينة وابنها جميل، حتى تلتصق الجثتان في مشهد حزين ويصبحا كتلة مشوهة من اللحم . ومن الزوايا المعبرة أيضا أن تجد العاشق يصنع تمثالا لمعشوقته ليخلدها، ضمن فكرة الخلود بالرواية . كما يعجب الناقد المتحدث بفكرة الإرادة التي يعبر عنها البطل في مواجهة القدر المحتوم ، وكلها جدليات فلسفية عميقة . ويعبر عقل أخيرا عن لحظة التنوير بالرواية ، حين يتسارع الإيقاع، وتتكشف الحقائق في حوار العنزي مع حجيزي، يقول له "لا يعيش الحياة من يقضي وقته في التفتيش" وكأنه يدعوه للعفوية للاستمتاع بالحياة ، وهنا يعلق بكري سلطان، رئيس اللجنة الثقافية بحزب "البديل الحضاري المصري" بأن العبد هو من يصنع منفاه بنفسه وليس .. الرب.