محمد ناجي: الكتابة عندي رحلة في الداخل وفرح بالشخصيات أحمد الخميسي: تجاهلته الدولة ورحيله جدد أوجاع الحركة الثقافية سعيد الكفراوي: سكنا في بيت واحد وناجي بدأ شاعراً إبراهيم عبدالمجيد: رواياته في بنائها أقرب إلى القصيدة "أنا فرح بمرضي.. راض بما قسمه الله.. كل ما يهمني أن لا أحرم من نعمة الكتابة، أن أكون سندا لنفسي وأولادي". هكذا كان يقول الراحل الروائي محمد ناجي عن محنة مرضه، ليستحق بحق ما وصفه به محبوه بأنه صاحب نفس صافية راضية.. وقلب مفعم بالحب...و كل تلك الأشياء الصغيرة الجميلة التي تبعث معها البهجة"، ويستحق أيضاً اللقب الأشهر له "ساحر" الرواية العربية. يقول عن الكتابة: الكتابة لدي ليست مجرد رداء جميل، أريد أن أطلع الناس عليه، وإنما هي رحلة في الداخل، رحلة اكتشاف شخوص وعوالم ورؤى، والفرح بمعايشة ملامحهم وتعليقاتهم وحيواتهم داخل النص، لكن يصاحب هذا دوما نبش في الداخل، وتكتشف أن هذه الشخصيات التي تستعيرها من عالم خارجي، كانوا يعيشون كاحتمالات في داخلك، حتى ولو كانوا أشرارا. فالتعرف على الذات من خلال الكتابة، ثم الشحن الجميل من فرحك بالكتابة، هذا الفرح هو قمة لذة الاكتشاف، لأنه يثير شجنك وأسئلتك بعمق، ويمنحك المقدرة على إعادة نسج وإدراك الأشياء من حولك في أفق جديد. الكاتب حتى في لحظات مرضه لا بد أن يمتلك شجاعة في مواجهة العالم بأفكاره. هذه الشجاعة يرسخها يقين وثقة بالنفس، وثقة بطهارتها يرسخها وينقيها فعل الكتابة، والامتلاء المتجدد بها كل يوم. قال الكاتب الكبير أحمد الخميسي أن رحيل الروائي محمد ناجي "فاجعة"، ليس لأن ظروف الصحية كانت عصيبة كما يقول، فعلى العكس لم يظلم في مرضه، فقد استطعنا أن نجمع له أموالاً من نقابة الصحفيين واتحاد الكتاب وغيرهم لعلاجه في باريس، لكن المؤلم في موته هو الظروف التي تحيط برحيل الكتاب. محمد ناجي تم تجاهله عن عمد من الدولة، في الوقت الذي كانت وسائل الإعلام تحتفي في بتفاهات واستطعت صنع نجوم من لا شئ، وعند ناجي لا أضواء تسلط عليه أو احتفاء به وبمشروعه الأدبي، رغم أن له 8 روايات واحدة منها تعد لؤلؤة من جواهر السرد العربي، وهي رواية "مقامات عربية"، وهي رواية كفيلة ان تدخله تاريخ الأدب العربي على حد قول الخميسي. يواصل: كنت أحادث ناجي قبل رحيله بخمسة أيام، وكنت أشعر في صوته بمرارة التجاهل، كل ذلك لأنه كان يعري ويفضح الواقع الاجتماعي والثقافي. في روايته "الأفندي" كتب: "عايز تكون كاتب مشهور هات ألف جنيه!"، هذا الواقع الاجتماعي الثقافي المتوحش كان هو عدو له، لذلك تم تجاهله والتجاهل هو سلاح الدولة والنظام لقتل المبدع حالياً بدلاً من السجن والقهر. ولفت إلى أن ناجي خدم في الجيش 4 سنوات من عام 69 إلى 73 لكنه لم يكتب حرفاً واحداً تطبيلاً أو مدحاً في النظام، لم يسع إلى شئ، وعاقبته الدولة نتيجة أنه خارج الأجهزة وخارج السياق السياسي العام، بالتجاهل. يواصل: أظن هذا التجاهل هو ما دفع حافظ إبراهيم أن يكتب: ما أنت يامصر بدار الأديب! وأوضح الخميسي أن الراحل لم يكن يتحدث عن مرضه أبداً ولم يكن شكاءً، وقد كان في زيارة لمصر منذ ثلاثة أشهر، وطلبت منه كتابة رواية عن وضع مصر الراهن وضحك معي قائلاً: "اكتبها انت!". وضرب ناجي نموذجاً غير عادياً في الشجاعة والصلابة وهو على سرير المرض، حيث كتب روايتان أحدهما بعنوان "سيدة الماسنجر"، والأخرى ستصدر عن"الأهرام" بعد أيام، كذلك كتب على سرير المرض كتابه "ذاكرة النسيان" وهم لم يطبعوا بعد. وأشار الخميسي إلى أن رحيل ناجي مؤلم، ويجدد كل أوجاع الحركة الثقافية، قائلاً: "يجدد في نفسي رحيل الصحفي في العربي الناصري فتحي عامر الذي كان يعاني من الكبد ولم يعالج حتى رحل في صمت لأنه خارج النظام السياسي أيضاً"، ويعلق الخميسي : نحن في واقع ثقافي متوحش. من جانبه قال إبراهيم عبد المجيد أن الأدب العربي فقد قامة كبيرة، والإنسانية كذلك فقدت إنساناً جميلاً، مؤكداً أن حزنه على الراحل كبير قائلاً: " كنا في شبابنا اصدقاء ولنا مغامرات في السياسة والحياة، وكانت ايام جميلة رغم الفقر والقهر". أما على مستوى الكتابة فيصفه عبدالمجيد، بأنه كان في بدايته شاعراً واستطاع عمل رواية بنائها أقرب إلى القصيدة، ومن ناحية أخرى استخدم غرائب الحياة التي لا ينتمي إليها إلا كبار الكتاب واستخدم لغة عجائبية أقرب إلى التراث، لذلك تميز الراحل في منطفة فريدة من الرواية، ولم يسع لشهرة ، مؤكداً أن الراحل لم يتم تجاهله لكن النقاد أقل من الابداع المصري. قال سعيد الكفراوي أن الراحل كان صديق عمره وسكن معه في بيت واحد، شقتان متقابلتان، وأعفه منذ السبعينيات. ووصفه بأنه رجل ذو موهبة فطرية، وكاتب متميز وعُرف بكتابة الشعر، وكشف أن ناجي ظل يكتب الشعر حتى أوائل التسعينيات ونشر قصائده في مجلات كثير، حيث كتب ناجي في أوائل السبعينيات قصيدة قرأها أمل دنقل، ومن غير أن يقول لناجي شيئاً أخذها وأعطاها دنقل إلى يحيى حقي الذي نشرها في مجلة "المجلة" في ذلك الحين. هذه القصيدة أعطت لناجي تميزه، وبعد أن عاد من السفر ناقشني في أنه سيكتب رواية وكتب "خفية قمر" التي قوبلت بحفاوة نقدية واستقبال حسن، حتى أنها أنست ناجي الشعر، ثم تواترت رواياته حتى أثبت أنه اكتشف منطقة للرواية تخصه وتشير إليه. كتب الرواية وضمنها ما يجري في الواقع من صراع ومتغيرات وسطوة سلطة سياسية وفتوات ونهابين استطاع ناجي أن يكتب عن هؤلاء ويحولهم إلى مادة للفن. يواصل الكفراوي: كان ناجي جزءاً من حركة الطلبة المصرية وله موقف سياسي حاد تجاه تجاوزات الحقبة الناصرية وفترة السادات، ثم تم تجنيده في الجيش وكنا نلتقي في ذلك الوقت وأسرتينا نظراً للقرب المكاني حيث كنا نقطن في عين شمس، إلى أن سافرنا الخليج هو إلى الإمارات وأنا إلى السعودية، وغبنا سنوات ثم عدنا والتقينا وسكنا في بيت واحد في مدينة نصر قبل أن أنتقل إلى المقطم، وجمعتنا علاقة صداقة وأخوة. وأشار سعيد الكفراوي إلى أن الراحل عانى من التجاهل والإهمال إلى حد ما، ولم يفرح بإنجازه الروائي المتميز، ولم ينتم إلى "شلة" أبداُ، وليست له جماعة ثقافية بل كان انتماؤه الحقيقي للإبداع، لم يحشر نفسه في تجمع ما أو يحسب على فصيل إبداعي معين، بل اختار محمد ناجي الإنتماء للإبداع فكان مشروعه الثقافي المهم في إبداع الرواية العربية له المذاق الخاص واللغة التي تقترب من الشعر، ونحت الشخصيات وتجسيدهم أحياء على الورق. وينعي الكفراوي ناجي بقوله: رحل الكاتب المستقل وترك في قلوب أصدقائه ألماً بسبب ما عاشه ملازماً للمرض فترة طويلة منذ عاد من غربته في الإمارات، رحم الله ناجي أحد الروائيين المصريين الذي كان يشعر بقيمة الكتابة واعتبرها جُرحاً لا ينسى وقيمة تمثل شغف الإنسان الحديث وحنانه إلى العدل والحرية والكرامة. ثورة يناير أنهت نظام يوليو! كان الراحل يرى أن ثورة أنهت نظام يوليو, حيث جرت انتخابات رئاسية بعيدا عن أي ضغوط سلطوية قمعية, وتمت الانتخابات البرلمانية بحرية نسبية رغم ما شابها من ارتباكات قانونية وتوظيف لرأس المال والدين, وانطلقت طاقات الشباب لتنتزع مساحة أكبر للتعبير من خلال تكوين الأحزاب وتنظيم المظاهرات والاعتصامات والإضرابات. يواصل: لكنني ألاحظ بأسي أن الحكم والمعارضة في حالة خصام لا حوار, وأن الصراع بينهما يجري عبر تعبئة شعبوية حول شعارات وليس حول خطط اوبرامج, وأن الإعلام الحكومي والخاص والمستقل يغذي حالة الخصام بتتبع زلات الكلام هنا أو هناك, وإثارة قضايا صغيرة تغطي بضجيجها علي القضايا الجوهرية. وألاحظ أيضا اختلاط الحابل بالنابل في الشارع السياسي مما يعطي لأعداء المطالب الثورية وحراس الفساد القديم فرصة لبلبلة الناس وخلط الشعارات. ونظام يوليو معروف كا يشير ناجي، يقوم على رئيس عسكري تتجدد رئاسته بالاستفتاء, فيما عدا انتخابات مبارك الهزلية. وحزب واحد يديره الرئيس, ويتشكل منه البرلمان والمحليات, وإن تم تجميل الصورة بعد ذلك بأحزاب رضيت أو أجبرت علي أن يكون دورها ديكوريا. وانتخابات تصوغ نتائجها أجهزة الإدارة والشرطة. أما عن وصول الإخوان للحكم فكان ناجي يرى أن الإسلاميين لم يتمكنوا من الوصول للحكم إلا بفضل مساحة الحرية التي أتاحتها انطلاقة يناير الثورية, قائلاً في أحد حواراته: أتصور أن الحفاظ علي هذه الحرية هو ضمان لهم قبل أن يكون ضمانا لغيرهم من أطياف العمل السياسي. وأي قفز علي هذه الحقيقة من جانبهم سيكون نوعا من الغباء السياسي المدمر للبلد. أما بخصوص تعاملهم مع حرية الفكر والإبداع خلال وجودهم بالحكم فلابد أن تنتج عنه بعض المشاكل لأن لهم تصورات خاصة حول حدود تلك الحرية ولهم جمهور واسع يتحيز لتلك التصورات. لكن علينا أن نعي أن التاريخ لا يمضي هكذا إلي النهاية, وتفاعلات الفكر والابداع تفرض نفسها علي مساراته, ففي ظل دول وامبراطوريات اسلامية كان هناك شعراء ومفكرون لا تتوافق أفكارهم مع قناعات الحكام, بل كان بعضهم مقربين من البلاط أو عاملين فيه مثل أبو نواس, وابن الرازي الطبيب صاحب الرسائل الفلسفية المعروفة بمخالفتها للتصورات الإسلامية.