من يتذكر ابو عمار بعد عشر سنوات من رحيله، لا بد أن يتذكر جنوده الاسرى القابعين خلف قضبان سجون الاحتلال، فالثورة والحرية صنوان في مسيرة كفاح الشعب الفلسطيني، و الذكرى ليست للأموات فقط وإنما للأحياء ايضا، فالأسرى كما قال ابو عمار شهداء مع وقف التنفيذ، ينتظرون أن ترفع آلة الإعدام والمؤبد وزمن السجن الثقيل عن رقابهم وأرواحهم، ويعودوا إلى وطنهم سالمين أحرارا. أعطى ياسر عرفات قيمة كبيرة للأسير المناضل، وكان يفتخر بهم ويتواصل معهم بكل الطرق، بل كان الاسرى جيشه الآخر في قلاع السجون، حصان طروادة المنظم والمتماسك الذي حول السجون إلى دولة داخل أسوار العدو، وساحات السجون إلى ساحات مواجهة وتحدي للقمع والإذلال الإسرائيلي، ولسياسات سحق الهوية النضالية والإنسانية للمعتقلين. إن روح ابو عمار كانت تحلق في حياة الاسرى ومسيرتهم، أباهم ورمزهم ومرجعيتهم، ينتظرون خطاباته ويهربون رسائله وكلماته، يحفظونها غيبا، ويتم تعميمها على كافة الاسرى، لتشكل مرجعا سياسيا وتنظيما وحافزا معنويا لهم. لقد اعتمد ياسر عرفات تجربة الاسرى التنظيمية والوطنية وما يصدر من قرارات ومواقف عنهم كأساس من أسس العمل السياسي والنضالي والتنظيمي ضد الاحتلال، وفي عمليات وآلات البناء الداخلي في التصدي للآلة العسكرية الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية. واعتمد ابو عمار قرارات ومواقف الاسرى وملاحظاتهم في المجالس الوطنية والمؤتمرات الحركية المتعاقبة، وقرئت رسائل الاسرى في أكثر من مؤتمر، واعتبر الاسرى قطاعا تنظيميا، وساحة من ساحات العمل الكفاحي الفلسطيني، حيث كانوا حاضرين في الرؤية والموقف الفلسطيني دائما. ولعلّ التجربة الديمقراطية والثقافية للاسرى والتي جعلت من السجون مدارس ثورية، وخرجت الكادر التنظيمي والوطني على مدار عقود من الزمن، كانت اللبنة الأساسية لانتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى، وفي التصدي لمخططات عزل منظمة التحرير وإيجاد بدائل لها كروابط القرى والتيارات الأخرى الخارجة عن شرعية القرار الوطني الفلسطيني المستقل. ولا ننس مواقف الاسرى في معتقل النقب عام 1988 عندما زار اسحق رابين السجن والتقى مع كوادر الاسرى طالبا التفاوض معهم والبحث عن حل سياسي ولإنهاء الانتفاضة، فرد عليه الاسرى بشكل حازم: اذهب إلى م ت ف والى ياسر عرفات، فهو قائد الشعب الفلسطيني ورئيس منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. إن معظم الاسرى في سنوات الستينات والسبعينات وأوائل الثمانينات هم من أسرى الدوريات، الفدائيون الذي اشرف ياسر عرفات وقيادة م ت ف على تدريبهم وإنزالهم في عمليات عسكرية إلى الوطن، بعضهم سقط شهيدا، وآخرون تم أسرهم. وروى الكثير من الاسرى كيف أن ابو عمار شاركهم في العديد من العمليات داخل الوطن، وانه وصل معهم إلى فلسطين، واشرف على بناء القواعد والخلايا العسكرية في الوطن لا سيما في بدايات انطلاقة الثورة. تواصل ابو عمار مع الاسرى داخل السجون بوسائل عديدة، ولعل مفاجأة إسرائيل كانت عندما تحدث هاتفيا مع أسرى سجن جنيد خلال مفاوضات إضراب عام 1992 (بركان ايول)، دون أن يعرف الإسرائيليون أن الذي تحدث مع الاسرى هو ياسر عرفات، وانتصر الاسرى في ذلك الاضراب التاريخي الذي شكل مفصلا في حياة الحركة الاسيرة. لقد تصدى ياسر عرفات للمفاهيم العنصرية الإسرائيلية، والتي أرادت التعاطي مع الاسرى كمجرمين وإرهابيين مجردين من حقوقهم القانونية ولا تنطبق عليهم اتفاقيات جنيف ولا أحكام القانون الدولي الإنساني، وظل يتعاطى مع الأسير الفلسطيني كمقاتل شرعي له صفة نضالية وحقوقية وإنسانية. وقد حظي الاسرى ليس فقط باهتمام سياسي من قبل ابو عمار، وإنما باهتمام إنساني واجتماعي، حيث أسست مؤسسة الاسرى والشهداء ومن ثم وزارة الاسرى والتي أولت اهتماما ورعاية لعائلات الاسرى وللأسرى داخل السجون وللأسرى المحررين، وهو الذي قال: (ان خيرة أبناء شعبي في السجون). إن تشكيل وزارة للاسرى لا يوجد مثيل لها في كل دول و أنظمة العالم السياسي، دليل على أهمية قضية الاسرى بالنسبة إلى أبي عمار، وإعطائها كل اهتمام سياسي واجتماعي كقضية حرية، وبما يمثله الاسرى من عنوان للتضحية ومشروعية مقاومة الاحتلال. يرى الاسرى في أبي عمار طائر الفينيق الذي خرج من الموت والحصار أكثر من مرة ليزداد بالقضية الفلسطينية تألقا ووهجا على الصعيد الدولي، ورقما صعبا وضع فلسطين على خريطة العالم اسما وهوية وحضورا وحقوقا. لم يكن ابو عمار من القادة الذين يتركون جنودهم خلفهم، كان يتقدم الصفوف، ويعمل بكل ما يستطيع من اجل إنقاذهم وحمايتهم وتحريرهم، نراهم معه وخلفه في جولاته وزياراته، يعطيهم مكانتهم كأسرى حركة تحرر وطني، ويعطيهم مواقعهم التي يستحقونها في كافة المؤسسات المدنية أو العسكرية. ومنذ إبرام اتفاقية أوسلو عام 1993 وحتى عام 2000 ، أطلق سراح 12 ألف أسير وأسيرة فلسطينية من سجون الاحتلال من خلال الاتفاقيات المرحلية التي أبرمت مع الجانب الإسرائيلي، وقبل اندلاع انتفاضة الأقصى لم يكن في سجون الاحتلال سوى 1500 أسير فلسطيني، كان يفترض أن يحرروا في اتفاقية شرم الشيخ خاصة القدامى منهم، ولكن إسرائيل تنصلت من ذلك. لقد اشرف الرئيس الراحل ياسر عرفات على معظم عمليات تبادل للاسرى أجرتها م ت ف وحركة فتح مع الجانب الإسرائيلي، تم خلالها إطلاق سراح الآلاف من الاسرى والأسيرات، وكان الاسرى عنوانا وهاجسا يسيطر عليه في صراعه مع الاحتلال، وفي كل المعارك التي قادها خلال مسيرة حياته. في الذكرى العاشرة لرحيل مؤسس الكيانية الفلسطينية ياسر عرفات، نفتح صفحات مديدة وعميقة من تاريخه الحافل والأطول والأشمل والأكثر تجذرا في حياة كل فلسطيني، لنجده أبا وإنسانا يحتضن الاسرى المحررين، ويقبل بنات وأولاد الاسرى، ويلتقي عائلاتهم ويهتف بأسمائهم، ويعطيهم من الحب والدفء ما يعوضهم عن كل الحرمان والخسارات والمعانيات الجمة. في ذكرى ابو عمار نوجه التحية إلى سبعة آلاف أسير وأسيرة فلسطينية، إلى هؤلاء الجنود الرازحين في تلك الظلمات، لا زالوا يصارعون السجن والسجان وقوانين الاحتلال الجائرة، يستلهمون قوتهم وصمودهم من كوفية ياسر عرفات، ومن روحه المتأججة والعنيدة، قادرون أن يكسروا سنوات القمع بكبرياء وشموخ، قادرون أن يملكوا كل أسباب القوة التي تجعلهم يرددون مقولته الشهيرة الرافضة للذل والاستعباد: (يريدوني إما قتيلا وإما أسيرا وإما طريدا، ولكن أقول لهم شهيدا شهيدا شهيدا). في هذه الذكرى التي تحلق فيها روح ابو عمار في سماء فلسطين، ووفاءا له ولروحه الخالدة، علينا أن لا نترك الاسرى أبناء ياسر عرفات وحدهم في صراعهم وعذاباتهم مع القيد والجلاد، وأن نعمل من اجل أن تبقى قضية الاسرى عبئا ثقيلا فوق أكتاف الاحتلال و مؤسساته العسكرية والأمنية. وعلينا أن نحول الذكرى إلى حافز للصمود والمقاومة والوحدة، وأن نرى ما بعد الذكرى حياة متجددة ومتولدة فينا، وأن ننطلق ببرنامج وطني وسياسي نحو توفير الحماية الدولية والقضائية للاسرى، ولا نترك المجرمين هاربين من العدالة الكونية ومحاكمها الدولية، وان تبقى قضية الاسرى قضية صراع إنساني من اجل الحرية والكرامة. تأتي الذكرى العاشرة لرحيل سيد الشهداء ابو عمار، وقد اشتدت الحرب الإسرائيلية على الاسرى أكثر من أي وقت سابق، وضمن مخطط لسحق هويتهم الوطنية وحقوقهم الإنسانية ، ولتدمير روح التحرر والحرية من نفوس وقناعات المناضلين الاسرى، بل لنزع روح ياسر عرفات من قلوب الاسرى. إن العدوان الإسرائيلي على الاسرى لم يقتصر بسلسلة الإجراءات الوحشية بحقهم كالعزل والإهمال الطبي والتعذيب والاعتقال الإداري واعتقال الأطفال، وعمليات القمع الوحشية ضدهم، ولا بحملة الاعتقالات المحمومة والجماعية في كافة مناطق فلسطين، وإنما ايضا بسلسلة قوانين عنصرية يشرعها الكنيست الإسرائيلي ضد الاسرى، بما يشكل خطورة على حياتهم وحقوقهم، أمام جرائم وحرب وجرائم لاإنسانية تمارسها إسرائيل تحت غطاء القانون. لازال ياسر عرفات يمثل نبوءة الاسرى ويقينهم بالنصر المؤكد، وبالحرية التي تبزغ مع مطلع الفجر، لأن هذه الثورة كما قال ابو عمار وجدت لتنتصر طال الزمن أم قصر، وانه سيأتي ذلك اليوم الذي يرفع فيه شبل من أشبال فلسطين علم فلسطين فوق كنائس القدس و مآذن القدس وأسوار القدس الشريف. الرئيس الراحل ياسر عرفات: مروان البرغوثي يسلم عليك القدس واشتعال الصلوات لينا جربوني تسلم عليك، والأسيرات يشعلون شمعه يزرعون وردة يوقدون جمرة قادة ونواب وعساكر وزهرات وتحية ساخنة من كريم يونس و احمد سعدات