أوجاع الهجرة لبلاد النفط .. والتطبيع .. وبيع الآثار القرية المصرية لم تعد رمز الطهر والبراءة! الروائي لمحيط : نعيش "نصف ثورة" .. والثقافة تحولت ل"صفاقة" هل يكون البسطاء أول رمح في خاصرة الثوار؟! النقاد : سرد مغرٍ يمتزج بشعرية ومعشق بالأسطورة والواقع "على العالم أن يدفع ثمن براءته المزعومة ، وعلى المجرم أن يجبي ثمن جرائمه الإجبارية، وخراج براءات الآخرين المزعومة وصمتهم المحرض .. " بهذا المفتتح، استهل الأديب المصري أحمد سراج ، روايته الجديدة "تلك القرى" والتي تعد فاتحة لخماسية روائية يخوض أبطالها غمار التاريخ المصري المعاصر، ليعودوا بالعبر ، عن شعوب عربية، عرفت النهر والحضارة على ضفافه، ولكنها ركنت في خنوع لاستعمار وسلطان مستبد، والغريبة أنها تكشر عن أنيابها ضد كل من تسول له نفسه مجابهة أبيها الذي في القصر !! وقد تحلق عدد من الأدباء والنقاد ليلة أمس، في "ملتقى السرد العربي" ، لمناقشة الرواية المرشحة عن جدارة لجائزة الرواية العربية الشهيرة "البوكر" ، متناولين مكنون فصولها الخمس التي تبدأ ب"ألواح الكتابة" المقتبسة من التوراة، وهجوم الفيضان على القرى المصرية، وهروب الفلاحين إبان الحرب العالمية الأولى، ومرورا بسيطرة العمد وتجبرهم، وحكايات العائدين من جحيم العراق الذي رمز له ببلاد "الرافد" بعد أن سقطت في يد الاحتلال، وصولا لقريتهم المصرية "سهر" ، والغريبة أنهم عادوا بخفي حنين، أذلاء ، وتبخرت أحلامهم بعد أن ضاق الوطن وصارت غربته هي الأقسى على الإطلاق. ويشير المؤلف إلى خطيئة كل هؤلاء المترسخة، فهم على اختلاف مشاربهم وضمائرهم ، توحدوا في رذيلة الصمت والسلبية، وصاروا منقادين دوما لسيدة أتلفها الهوى، وسيد يرفع سوطه في وجه معارضيه، وشيخ مزعوم، وجنرالات يفتحون سجونهم مرحبين بكل وافد جديد. في الرواية سنجد "أسامة" مدرس التاريخ، أو جبرتي قريته، الذي يضطر بضغط أهله للزواج على حبيبته وزوجته "شهد" ابنة الأصول، من أجل الإنجاب، ويضطر فيما بعد لتطليق شهد ، بعد قصة حب جمعتهما، فيعود لعزلته من جديد شاردا . أما "عبده" فتنتهي الرواية بمصارعته لرجال العمدة، واختفاؤه العجيب، بعد أن أقام عشرين عاما في العراق وعاد خالي الوفاض بزوجة وطفلين . فيما تندب الدكتورة الثورية "عبير" حظ زوجها عالم الذرة العثر، الذي قتل عمدا، وقيل أنه قضى بتفجير بالعراق! ويذهب "هندي" و"سعيد" بحثا عن الآثار المدفونة بعد عودتهما، ويحقق الأول ثروات محرمة حصيلة علاقات جنسية آثمة لكنه ينتهي نهاية بشعة بعد قطع أعضائه الحساسة عقابا له. يقول مؤلف الرواية : بدأت هذا العمل منذ 2005 وانتهيت منه قبيل ثورة يناير 2011 بعدة أشهر ، وقد استعنت بكتابات أجداد المصريين والعراقيين ،منذ آلاف السنين، السومريون والفراعنة، في ألواحهم الحكيمة، ووجدت احتفاء بالنهر أبوالحضارة، لكنك حين تفكر في ثقافة إبن النهر ستجدها كما وجدها الدكتور جمال حمدان، شخصية تقبل بحكم مركزي قوي، أو مستبد . وتتماس الرواية مع دلالات فلسفية كونية، منها استدعاء الرقم "صفر" الذي يعني بدء الخليقة. كما استدعى بعض كتب التراث والأساطير الشهيرة حول العالم، وأمثولات السيدات التي استرققن الرجال لخدمتهن جنسيا علامة على الهيمنة في العصر الروماني . ثم تحمل الفصول أسماء الرواة وشهاداتهم، وهناك عتبات جانبية كتبها راو عليم . كما استعان بشهادات واقعية عايشها من فلاحين مصريين بقريته في محافظة المنوفية، وهؤلاء عادوا من العراق وشاهدوا مأساة مروعة وفقدوا ما تحصلوا عليه بجهد جهيد وغربة ومشقة لا تطاق بعيدا عن الأهل . وللأسف فالقرية المصرية غزاها الفساد، كما يؤكد الكاتب، ولم تعد هي قرية الطهر التي تناقض المدينة القاسية التي صورها الشعراء . لكن الصورة ليست قاتمة تماما فهناك الفجر الذي يحمل دلالة يوم جديد، ربما يحمل عذابا أو أملا لا أحد يعلم . وتحدث "سراج" عن رفضه لأي مشروع أو جائزة ثقافية يشوبها الفساد، وهذا تم فعلا حين ترجمت مسرحيته "القلعة والعصفور" بأمريكا ، ورفض السفر، ومرة ثانية حين حصل على جائزة قصة بمسابقة تقدم فيها عن عمل مسرحي! وردا على تساؤل "محيط" حول الخماسية الروائية "تلك القرى" وهل يسير أبطالها على نفس المنوال ، برغم ظرف الربيع العربي ؟ فأجاب المؤلف بأننا من الأساس لم نشهد سوى نصف ثورة .. ولم نسقط رأس النظام ولا ذيله، وانغمسنا في جمع الغنائم ، فراح الحكم لأبناء النظام القديم في ثوب المعارضين ، أو الإخوان المسلمين، ثم استعاد المصريون الحكم فوضعوه بيد الجيش ، والاحتمالات لا تزال مفتوحة على أشياء كثيرة ومخاطر جمة .. ونشهد ما يجري فقط بسجل حقوق الإنسان في مصر حتى اللحظة. لكن بطل "تلك القرى" حين يختفي ، فذلك باب مفتوح، ربما يعود الثائر ويمتلك أدوات التغيير، ويغير من عقلية الناس التي اعتادت على الاستخفاف بكل جديد وهزيمة كل ناجح، ونحن لا نرى ما يحدث بأوكرانيا حين يصبح عامل نظافة صاحب مليارات بفيديو يرفعه على الإنترنت، والكل يحتفي به، ولا أحد يذكره بأن في الأصل كذا وكذا .. واستطرد أحمد سراج : قلت بعد ثورة يناير، أخشى أن نتحول لفلول الثوار .. لابد ألا يحدث ذلك، ولو تحدثنا فقط عن وزارة الثقافة البائسة سنجد العجب، القيادات مسنة، ويتحدثون عن الشباب وأحلامهم ! والمجاملات والشللية حولوا واقع الثقافة ل"صفاقة" ، فتجد من يتحدث عن جماليات ديوان أصدره حجازي في "الستينات" ! ثم حين يعد وزير الثقافة بالتغيير يختار شخصيات بعينها لقيادة الصحف الثقافية، وبعضهم يمتلك الموهبة والكفاءة، لكن السؤال عن المضمون والتغيير من حقنا، فلا شيء تغير، وبصراحة صحيفة "القاهرة" لا تشبه في شيء تلك التي كان يقدمها غالي شكري ، فالأخطاء الإملائية والمهنية فجة، باختصار نحتاج لتطوير أشياء كثيرة وأهمها أن نحترم الآخر ونعلم أننا بشر، فلا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة، ولكن حتى المجرم له مبرراته ومنطقه، الذي يجب أن نستمع إليه جيدا .. وفي الرواية سنجد سيدة من أهل القرية تلقي بالرمال في وجه الثائر عبده، كي لا ينتصر على العمدة، ولو استمعنا إليها ربما علمنا أنها تعلم أن انتصار "عبده" يعني موته حتما بطلقات رجال العمدة، وضياع هيبة عائلتها التي تحكم منذ سنوات بعيدة .. فما فائدة ثورته إذا ؟! اضاءات النقد اعتبر الدكتور حسام عقل ، أن محاسب الكاتب أحمد سراج كثيرة، وأهمها أنه لا يجيد الإمساك بالعصا من المنتصف، فهو يجأر بالحقيقة مهما كانت كلفتها، وصوته ليس حييا في مواجهة فساد المؤسسة الثقافية. والشاعر يراوغ الروائي في "تلك القرى" فتجد تكثيف العبارات ، ستشعر بالقهر حين تقرأ " سنسير مادام هذا هو الطريق الوحيد"، وسنشعر بفصاحة في غير تقعر، واستخدام راق للعامية، والجمل الموسيقية، والمقاطع الشعرية، والحكم الضافية، وهذا يضفي جمالا على السرد طالما أنه لا يجور على القصة أو الحدث، ومن دلائل تلك النظرة الشعرية، تشبيه لحمامة صغيرة هجرت الطعام لغياب وليفها، وهو ما يذكرنا برواية محفوظ التي صدرها بعبارات ساحرة عن الإسكندرية "قطر الندى ونفثة الشعاع الأبيض" ويضيف عقل : الرواية تتراوح بين الواقع والفانتازيا، لكن البعد الأسطوري يتجلى في ثلثها الأخير، وتجهيل الأماكن ربما كان متعمدا من الكاتب، في البداية، خاصة وأنه كلما أوغل في الكتابة أسقط الشخصيات والأماكن تدريجيا، لتبقى الرموز والحكايات ويكتب لها الدوام. هناك رموز يمكن للقاريء أن يستنتجها ببساطة "حزب الوعد الرافدي" هو حزب البعث بامتياز. ومن العنوان نستطيع أن نستشف الدلالة الدينية "تلك القرى أهلناكم لما ظلموا" ، وتنتهي الرواية بالرمز "طريق عبده" الذي خاضه الفلاحون جيئة وذهابا بحثا عن جارهم ، بلا فائدة، ولكنهم هجروه خشية بطش العمدة . والرواية بها لقطات قاسية، كتلك التي تسقط جيل الوسط من المعادلة، حين يتحدث جد لحفيده، فتدرك أن الابن مفقود. وأحيانا يلجا المؤلف للهروب الدرامي من المواقع الصعبة ، كعادة الأفلام السينمائية القديمة، فتجد أن الجنرال الذي طمع بالزواج من الفتاة الصغيرة ، يموت فجأة بحادث بالطائرة قبل أن يطيح بحبيبها.
والرواية تجسد بامتياز حال المهاجرين المصريين، وحين يلتقي "عبده" و"سعيد" لا ترى سوى عربات قاسية تنقلهم وهما يطلان من قضبانها، ولا ترى من رأسيهما سوى تراب ومن الفم سوى الدماء . ويجسد بامتياز العبودية المعاصرة، أو الخضوع للكفيل في أقطار النفط، ويوغل الراوي في مذلة أبطاله حين يجعل خائنة تخاطب عبده " أنتم لا تعرفون الثورة منذ سبعة آلاف عام" أهل القرية "جلدوا الحالمين وصالحوا العدو ، وحاربوا الأخوة ، غاض الخير وعاد النهابون بألف وجه" .. وكما ينظر حسام عقل ، تشعر الآن أمام عبارة كتلك أنك أمام رقعة العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه . كما نلمس بالرواية طبيعة القرية التي تغيرت فصارت العلاقات الاجتماعية تشحب تدريجيا، وخطاب المسجد ينحو للتشدد المقيت أحيانا ، ف"سعيد" لا يجد من يبارك عودته ، بينما شيخ الجامع يطالب برجم امرأة بعينها من فوق المنبر !! لكن الناقد ، أكد أن تقطيع الفصول على لسان الشهود، جاء مربكا للقراء. وقد جعل "أسامة" جبرتي القرية الذي يرصد تطورها، على غرار بن تغري بردي مع قاهرة زمان، في حين طفت الصوفية بالرواية حتى من أنذل الشخصيات "هندي" زير النساء، وهو حين يحب المعلمة صباح يتحول للحب الرومانسي القديم وقد جاءت نهايته أليمة، وربما هذا تيمة فنية تستخدم بالأدب والسينما ، حيث العنف والحب والدين. وتهتم الرواية بالنبوءة، حين تقول ضاربة الودع لعبده أنه سيموت يوم أربعاء، ويهزم كل الرجال، وتقتله نظرة امرأة ! ربما كانت هي تلك السيدة القعيدة التي أهالت في عينه التراب ، خشية بطش العمدة، وربما في ذلك تساؤل : هل من دافعنا عنهم سيكونون أول رمح في خاصرتنا ؟ .
الشاعر والناقد د. خالد البوهي ركز على تعرض الرواية للقهر السياسي بعنف، فالحكام يفقدون الشرف من أخس رجل بالرواية، وهو "هندي" الذي يضاجع زوجة سيد القرية، والشعب يفقد الشرف في نماذج عديدة، وسيدة تخون زوجها وتقول : أنتم هكذا لا يحكمكم سوى الطواغيت، لأنكم لا تفهمون، ومن يفهم منكم لا يتكلم، ومن يتكلم لا يفعل، حتى أنكم لا تثورون طيلة سبعة آلاف سنة! والكاتب كما يؤكد "البوهي" يستدعي قضية العروبة، وتهاجم التهويد ومعاهدة الصلح مع الدولة الزرقاء "إسرائيل" ، ثم تشير بطرف خفي لكنه مؤثر لتورط بعض الجهات بحماية هذا الملف داخل مصر. وتستدعي الرواية فكرة تقسيم العالم العربي، فبلاد الرافدين، صارت "رافد" ، كما تتطرق الرواية لنماذج المنبطحين "على دين العمد" ، واليائسين "ألا يكفينا ما نالنا" والمقاومين "قدرنا أن نأتي في لحظة دقيقة كتلك" . من جانبه، أشار الناقد زكريا صبح، لدائرية الرواية، والتي تفتتح بما تنتهي إليه أحداثها، وأنها رواية عصية على القاريء المتعجل، ورأى أن تقطيع الرواية جاء مربكا لكنه ممتعا وتلك وظيفة الفن، كما أن الرواية تسقط الأزمنة والأمكنة بتعمد. وركز "صبح" على شخصية المرأة الفاعلة في الرواية ، والرجل السلبي على الدوام، ف"عبير" أستاذة تاريخ تتعرض للاعتقال، خاصة بعد أن قضى زوجها ضحية انفجار مفاعل نووي بالعراق، و"سلسبيل" وفية لعبده برغم عدم اكتراثه، و"شهد" ضحت من أجل حبيبها "أسامة" حتى النساء الخائنات كن تقدن البيوت بدلا من السيد! وتتعرض الرواية لقضايا خطيرة تشهدها القرية المصرية، ومنها بيع الآثار. لكن الناقد عاب على الكاتب وحدة لغة السرد التي يتحدث بها الأبطال رغم اختلافهم الظاهر . أما الدكتور عايدي جمعة، فتحدث عن انتماء الرواية للأدب الطبيعي، البعيد عن منجزات الحداثة، وهو يعيدنا لجو البكارة الذي يفتقده عالمنا المدني المعاصر، وشبه العمل بقصص مجدولة لتصير رواية، وفي حين تبدأ الرواية بصراع الإنسان مع الطبيعة تنتهي بصراعه مع أخيه الإنسان .
.. كتب الدكتور محمد فكري الجزار، أستاذ النقد الحديث، على غلاف الرواية : "حين يتحكم قانون المكان بمسيرة الزمن، لا تنتظر جديدا، وبالتالي ستكون مهمة سرده معلقة فقط بشهادات سكان المكان عن التناسخ الأبدي لمصائر الذاهبين والآتين .. "