أخيرا" عدت إلي عملي بعد أسبوع كامل "إجازة إجبارية " بسبب المظاهرات التي قام بها شباب الفيس بوك والذين احتلوا ميدان التحرير وبدأت فى استئناف العمل المكلف بتنفيذه عندما دخل علينا أحد المديرين الكبار وهو يحكي لنا عن الأيام الأربعة التي قضاها فى المظاهرات.
وفجأة سأله أحد الزملاء هل صحيح أن هناك من يوزع "مائة جنيه ووجبة كنتاكي " على الذين يذهبون إلى المظاهرات حتى يستمرون بها كما يقول التليفزيون الرسمي المصري .
أجاب المدير بكل ثقة مقسما" بأغلظ الأيمان مؤكدا" ذلك الخبر , وأمام هذا القول الفصل ولثقتي المتناهية في المدير الهمام قررت أن أغامر وأذهب إلي ميدان التحرير لألهف مائة جنيه وأتذوق وجبة الكنتاكي (التي امتنعت عن أكلها بأمر المدير المالي ) .
بدأت الرحلة بخروجي من العمل متوجها" إلي الميدان ومستعدا" لالتهام وجبة عائلية على الأقل إن أتيحت لي الفرصة لذلك , وتوجهت مباشرة" إلي كوبري قصر النيل.
وقد فاجأتني المتاريس والدبابات الرابضة ورائها وأمامها يقف طابور طويل أخذ شكلا" ثعبانيا" حتى تستوعبه المساحة الفارغة أمام تلك المتاريس.
وقد استعدت رباطة جأشي وقلت في نفسي ( دي كنتاكي مش أي حاجة ياعم درش ) اقترب دوري وحانت لحظة دخولي وبدأت أمعائي فى التحرك استعدادا" لهذا الفتح العظيم وهذه الغزوة الموفقة ( لم أنس فى كل ذلك أن أدعو للمدير صاحب الفضل).
وجدت مجموعة من الشباب تتصايح منبهة" الداخلين أمثالي بتجهيز بطاقة الرقم القومي وتحملت (لأجل الورد ينسقي العليق) ثم ولجنا إلى مرحلة أخرى يتم فيها تفتيش الداخلين.
( آه لقد فهمت هؤلاء القائمين على تلك المظاهرات ) إنهم يحاولون تقليل الأعداد حتى يحظوا بنصيبنا من الوجبات والنقود , ولكن هيهات هيهات لما يفعلون , إن فعلوا تلك الألاعيب مع غيري فأنا لا وألف لا إني لهم بالمرصاد .
أخيرا" دخلت إلي الميدان " وبدأت المهمة الأصعب ألا وهي تحديد مكان توزيع الكنتاكي والنقود .
أخذت أصول وأجول في جنبات الميدان وقد لاحظت من الوهلة الأولى أن هناك خطة محكمة من المتواجدين فى الميدان للتعتيم على عملية التوزيع.
ولذلك قررت استخدام كل ما اشتهر عني من فهلوة (فأنا حدق وفهلوي و لي في الجبال علامات على رأي أخويا اللمبي ) وأخذت في تتبع تلك الجموع وحاولت الاختلاط بهم على طريقة أدهم صبري ( مثلي الأعلى).
وأخيرا" وجدت مجموعة" منهم تهتف برحيل النظام ورجاله فانخرطت في تنظيمهم وأخذت أهتف بكل عزم ( لعل الأعلى صوتا" يأخذ وجبتين) حتى تعبت وهنا اقترب مني شاب صغير السن وقال لي أنت شكلك تعبت قوي استرح شوية وإحنا نكمل مكانك ونبقي نبدل مع بعض .
أومأت بالإيجاب, فقال لي أنت ليك خيمة هنا في الميدان , أجبته نافيا" وقد استسلمت للتعب والإرهاق (علشان أصعب عليه شوية ويدلني على مكان توزيع الكنتاكي والنقود) وهنا أجابني بما أثلج صدري , فقد صاح مناديا" أحد زملائه موصيا" إياه بأخذي إلي خيمتهم للاستراحة وقال له بصوت خفيض متفاديا" أن أسمعه (متنساش تقدم له أكل شكله ما أكلش من الصبح ) .
اصطحبني صديقي الجديد معرفا" نفسه قائلا" أنا اسمي خالد مهندس مدني واللي كان معانا من شوية اسمه حسام محاسب بشركة بترول , على غرار ذلك عرفته بنفسي وأخذنا فى الكلام مخترقين الخيام المتلاصقة فى وسط الميدان والتي تكتظ بأسر وشباب وبنات بالإضافة إلي العجائز.
واستغربت من هؤلاء الناس كيف اجتمعوا على قلب رجل واحد ومن وحًد كلمتهم بهذا الشكل حتى إن جميعهم بلا استثناء ينادي برحيل النظام بأكمله ( من الحداقة والمفهومية طبعا" أن أعرف تأثير تلك الوجبة السحرية والورقة المالية المصاحبة لها) .
أخيرا" وصلنا إلي الخيمة المبتغاة فوجدت مجموعة من الناس فى مختلف المراحل العمرية والفئات الاجتماعية يتحاورون فيما بينهم وينصتون باهتمام أثار إعجابي فبدا لي من أو وهلة أننا لسنا على أرض مصر .
كيف يجرؤ هؤلاء علي الحديث في موضوعات مثل العدالة الاجتماعية وحق الشعب في تقرير مصيره , أفقت من هذا الذهول وقلت لنفسي مالك وهؤلاء إن لك مهمة محددة ألا وهي معرفة المقر السري لتوزيع الكنتاكي والنقود .
وفي لحظة وجدت رفيقي يقول لي برفق شكلك جعان تحب تأكل إيه , أجبت بحياء مصطنع أي حاجة يا أستاذ خالد هو إحنا جايين هنا علشان نأكل , ومن الواضح أن إجابتي أثلجت صدر رفيقي فأمن علي كلامي .
ثم أحضر لي عدة أرغفة وولج إلي داخل الخيمة ليحضر باقي الطعام وقد ظهرت على ملامحي حالة من النشوة, أخيرا" بلغت المراد وسوف أنعم بالكنتاكي , أدرت ظهري لمدخل الخيمة مندمجا" مع الجمع منصتا" لهم ( التقل صنعة).
وفجأة نبهني رفيقي بأنه قد أحضر لي الطعام فأدرت وجهي إلي الطعام فإذا هو قطعة من الجبن بالإضافة إلي قطعة أخري من الحلوى وبضع تمرات وأتبعني ببعض الكلمات المعهودة فى تلك المواقف ( على قد ما قسم وما شابهها) .
ومن فرط المفاجئة انعقد لساني عن الكلام فزاد ذلك من مظهر الحياء الذي تصنعته منذ البداية ومن ثم ظهر عليه الآسي وقال لي تصدق إن في ناس يتهمونا إننا قاعدين في الاعتصام بسبب وجبات كنتاكي وفلوس يتم توزيعها علينا للاستمرار فى الميدان ومحدش منهم فكر ولو للحظة فين الكنتاكي اللي حيكفي الملايين دي .
محدش منهم فكر ولو للحظة إن إحنا لو ما كانتش مطالبنا مشروعة ومن حقنا ,مكانش العالم كله وقف معانا ومكانش النظام نفذ مطالبنا غصبا" عنه , في هذه اللحظة تذكرت المدير الهمام وأيمانه المغلظة عن وجبة الكنتاكي والمائة جنيه التابعة لها ودعوت الله علي الظالمين.
*كاتب من مصر باحث بمركز الدراسات والبحوث الإعلامية "أرابيا إنفورم"