عبد البارى عطوان رئيس تحرير القدس قبل اقل من عامين، وبالتحديد قبل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أواخر عام 2008، كانت الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية تكيل المديح لتركيا وحكومتها، وتطرز معلقات الغزل في نموذجها الإسلامي الفريد من نوعه الذي ينسف كل النظريات السابقة حول عدم تعايش الإسلام مع الديمقراطية.
هذا المديح يتبخر الآن بسرعة، وبدأ يتحول الى حملات إعلامية وسياسية مكثفة، خاصة في أوساط اليمين الأمريكي والأوروبي.
حيث بدأت صحفه ومنابره الإعلامية تصور تركيا ورئيس وزرائها رجب طيب اردوغان كدولة 'معادية' تملك أجندات خطيرة تهدد المصالح الغربية في منطقة الشرق الأوسط.
كلمة السر التي تكمن خلف هذا التحول مكونة من سبعة حروف 'اسرائيل'، فهي البوصلة التي تحدد للغرب أعداءه، مثلما تحدد له اصدقاءه.
فعندما كانت تركيا تقوم بدور الوسيط بين الدولة العبرية وسورية وتستضيف جولات مفاوضات سلام غير مباشرة، كانت توصف بالدولة المعتدلة التي تشكل جسرا للتقارب بين الشرق والغرب.
ولكن عندما انتفضت لكرامتها الوطنية، والإسلامية، وانتصرت للمحاصرين في قطاع غزة، وبدأت تعمل لرفع الظلم عنهم، انتقلت فجأة وبسرعة قياسية الى خانة الأعداء.
العالم بأسره يسلم حاليا بخطأ الحصار، والنتائج العكسية التي ترتبت عليه، ومن بينها تهديد امن إسرائيل نفسها وتعزيز سلطة حماس بدلا من إضعافها، وتتوالى الجهود للالتفاف عليه والمبادرة ب'تخفيفه' وليس رفعه في اسرع وقت ممكن.
اليس هذا الاعتراف الصريح والمتأخر بوحشية الحصار، والعمل الدءوب الذي نراه حاليا لرفعه، او تخفيضه، هو ثمرة هذه الانتفاضة التركية الأخلاقية؟
فلماذا لا يسلم الغرب، والولايات المتحدة بالذات بصحة الرؤية التركية، ويقدر للسيد اردوغان بعد نظره وإنسانيته، ويقترب منه أكثر، بدلا من مناصبته العداء، وتأليب الأرمن وما تيسر من اليهود ضده من خلال إعادة نبش فصول التاريخ السوداء بنظرة أحادية مغرضة ومسمومة؟
ومن المؤلم إننا نرى حالة بشعة من التنسيق المحكم بين الإعلام الغربي، او القطاعات الخاضعة للوبي الإسرائيلي فيه بالذات، ونظيره العربي، او بعض اذرعه التابعة لدول في محور الاعتدال العربي.
وكأن هناك 'مايسترو' يطلق اشارة البدء، ويحدد النغمات ويوزع الادوار وفق اجندة معدة بعناية فائقة من قبل خبراء في تضليل الرأي العام.
فحزب العمال الكردستاني الذي كان 'إرهابيا' في منظور الغرب، وأمريكا بالذات حتى ارتكاب القوات الاسرائيلية مجزرة سفن الحرية في عرض المتوسط، لم يعد كذلك، وحزب العدالة والتنمية الذي كان ينظر اليه كرمز للاعتدال اصبح متطرفا وأصوليا ويهدد مصالح تركيا وجيرانها الاوروبيين.
اما رئيسه رجب طيب اردوغان فارتكب كبيرة الكبائر باستقباله كلا من الرئيس السوداني عمر البشير المطلوب لمحكمة جرائم الحرب الدولية لدوره في مجازر دارفور، والرئيس احمدي نجاد لانه قتل واعتقل الآلاف من الإيرانيين إثناء الثورة المخملية حسب اقوال الصحافي الأمريكي الشهير توماس فريدمان.
فلا ضير ان يزور البشير او نجاد، او احدهما، المملكة العربية السعودية او إثيوبيا او نيجيريا او العراق او حتى ليبيا وروسيا، ولكن ان يزورا تركيا اردوغان الدولة المسلمة فهذه خطيئة كبرى لا تغتفر.
' ' '
فجأة نسي المستر فريدمان صاحب النسخة الأصلية من مبادرة السلام العربية الخدمات الجليلة التي قدمتها تركيا للعالم الغربي على مدى الستين عاما الماضية من خلال عضويتها في حلف الاطلسي (انضمت اليه عام 1952)، حيث كانت سدا منيعا في مواجهة المد الشيوعي الماركسي نحو الشرق والجنوب.
وخاضت معظم حروب امريكا في العراق وافغانستان والبوسنة وكوسوفو، والسبب انتصار السيد اردوغان للمحاصرين المجوعين في قطاع غزة، وتعهده بالعمل لانهاء الحصار عنهم والمطالبة باعتذار اسرائيلي عن مجزرة مرمرة، والاصرار على لجنة تحقيق دولية لمعرفة جميع جوانبها.
إسرائيل 'بقرة مقدسة' لا يجب عبادتها فقط، وإنما عدم المساس مطلقا بها لا من قريب او بعيد، فذلك امر محرم، واختراق لكل الخطوط الحمر، فهذه دولة محصنة، ممنوحة تفويضا مفتوحا من الغرب بالقتل والعدوان وقتما تشاء واينما تشاء، ومن يعترض عليه تحمل النتائج الوخيمة.
حكام تركيا العلمانيون، ورثة أتاتورك، تجاوبوا مع كل طلبات الغرب.. عدلوا الدستور، اطلقوا الحريات، تبنوا كل القيم الديمقراطية الغربية، ألغوا عقوبة الإعدام.. وعندما جاء الإسلاميون المعتدلون الى السلطة بقيادة اردوغان تغاضوا عن جريمة الزنا.
وأداروا وجوههم الى الناحية الأخرى حتى لا يروا الخمارات وبيوت الدعارة، كل هذا من اجل الفوز بعضوية الاتحاد الأوروبي وتحقيق حلم أتاتورك الشهير، ليكتشفوا في نهاية المطاف، وبعد كل هذا اللهاث الماراثوني الطويل، وجود لافتة عريضة على باب هذا النادي تقول 'ممنوع دخول المسلمين'.
التحالف الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل الذي استمر أكثر من نصف قرن لم يفتح باب الاتحاد الأوروبي أمام أنقرة، وحكامها، ومحكوميها، ولكن مجرد الاختلاف معها وحد كل دول أوروبا في العداء لها، والوقوف في الخندق الإسرائيلي، في مواجهة الأخطار المزعومة التي تهددها بسبب انحناءة تركيا نحو جوارها العربي والإسلامي.
فخوسيه ازنار رئيس وزراء اسبانيا السابق، والضلع الرابع في مربع بوش وبلير وبرليسكوني الشيطاني الذي دمر العراق وافغانستان، وقتل وشرد الملايين من أبنائهما، خرج اخيراً من جحره، وبعد بيات شتوي استمر خمسة أعوام، ليتحول الى بطرس الأعور، يقرع الطبول لدعم إسرائيل، والحرب على أعدائها، في مقالة له نشرتها صحيفة 'التايمز' البريطانية قبل ثلاثة ايام.
مثلما حاصروا جمال عبد الناصر، وصدام حسين، الآن يحاولون إحكام الطوق على اردوغان، ويعملون على اغتيال شخصيته، وإلصاق كل الموبقات به وبحزبه الإسلامي، ويشككون في ديمقراطيته وانجازاته في ميادين الحريات، ويحرضون العلمانيين، او بقاياهم في تركيا للانقلاب عليه.
' ' '
شيخ 'الليبراليين' في الصحافة الأمريكية توماس فريدمان مستاء بل غاضب جداً من الشعبية الطاغية للسيد أردوغان في الشارع العربي ويدعي انه لا يمانع أن يحظى أردوغان بهذه الشعبية مثلما قال في مقاله الأخير في صحيفة 'نيويورك تايمز' المنشور يوم الأربعاء الماضي.
'لكن ليس لكونه أكثر تطرفاً من المتطرفين العرب أنفسهم، ومساندة حركة 'حماس'، ولكن كداع للديمقراطية ووسيط موثوق بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
المستر فريدمان ينسى، وهو يتحدث عن هذه الديمقراطية، ويريد من أردوغان ان يكون داعياً لها، ان حركة 'حماس' التي يعايره، بل ويجرمه لدعمها، فازت في انتخابات ديمقراطية حرة، وان أردوغان توسط فعلاً بين إسرائيل وسورية، حول القضية الأسهل في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، اي احتلال هضبة الجولان، ولكن أصدقاءه الإسرائيليين هم الذين أفشلوه بعجرفتهم وجشعهم وشروطهم التعجيزية المهينة.
المشكلة أن الكاتب فريدمان وأمثاله يريدون من أردوغان أن يكون نسخة من معظم الزعماء العرب، اي أن يصبح زعيماً ديكتاتورياً فاسداً يهتدي بالبوصلة الإسرائيلية، ويطالب بتشديد الحصار على قطاع غزة، وإرسال الزوارق الحربية لإغراق سفن الحرية في عرض البحر بمن على ظهرها.
من حسن الحظ، وحظنا وأمثالنا على وجه التحديد، لا توجد مؤشرات تفيد بأن السيد أردوغان سيكون نسخة من هؤلاء، واغلب الظن انه لا يتأثر بمثل هذه الحملات، او هكذا نأمل.
لان عملية التغيير في المنطقة قد بدأت بقوة، وفي غير صالح إسرائيل وأمريكا، فقد طفح كيل المنطقة من ظلم وبلطجة هؤلاء، وإذعان حلفائهم العرب للاهانات والصفعات.
*رئيس تحرير القدس العربي جريدة القدس العربي 19/6/2010