إنها عديمة الخبرة والثقافة, ولا تقرأ حتي الصحف اليومية هكذا وصف ديفيد بروك المعروف باتجاهه الجمهوري المحافظ المرشحة سارة بايلن لمنصب نائب الرئيس علي بطاقة حزبه. ولم يكن بروك الوحيد الذي أفزعه اختيار بايلن مرشحة لهذا المنصب, بالرغم من أنها تعبر عن الاتجاه السياسي الذي يفضله, لكن بئس هذا التعبير الذي يختزل فلسفة عميقة في خطاب سطحي وعبارات ركيكة, وإيماءات مبتذلة وغمزات غير لائقة. فكثير معه في النخبة السياسية والثقافية المؤيدة للاتجاه المحافظ في الحزب الجمهوري لم يتخيلوا أن يدور الزمن عليهم, وهم الذين شكلوا صورة أمريكا والعالم علي مدي ما يقرب من ثلاثة عقود منذ أن دخل رونالد ريجان البيت الأبيض, فلا يجدون من يدعمونه إلا بابلن. ولذلك وقفوا ضدها, فأضعفوا حملة جون ماكين أو زادوها ضعفا فعل بعضهم هذا من منطلق ايديولوجي حزبي ضيق خوفا علي مستقبل الاتجاه الذي يمثلونه. وبدت بايلن بالنسبة إلي هؤلاء كما لو أنها سرطان قاتل سيأكل خلايا الحزب الجمهوري والتيار المحافظ, ولكن بعضهم الآخر رفض ترشيح بايلن من منطلق وطني يتعلق بالمصلحة العامة وليس فقط بصورة الحزب الجمهوري والمحافظين الذين يسيطرون عليه. ومن هؤلاء مثلا كاتبة العامود في صحيفة وول ستريت جورنال بيجي نون والتي كانت ضمن الفريق الذي تولي كتابة خطب الرئيس الراحل ريجان. فقد أعلنت تقييمها لبايلن بشجاعة ووضوح, عندما كتبت: بعد سبعة أسابيع علي متابعتي للحملة الانتخابية, تأكدت أن بايلن لا تمتلك الأدوات ولا المعرفة ولا الفلسفة للقيام بمهمات الرئيس في حالة غيابه, ووجدت أن ملايين الأمريكيين يشاركونني هذا الاعتقاد. والآن يميل عدد متزايد من نخبة الحزب الجمهوري وأنصاره في الأوساط المحافظة إلي تحميل بايلن قسطا من المسئولية عن خسارة الانتخابات الرئاسية, بالرغم من استحواذها علي قلوب قطاع واسع من جمهور هذا الحزب والتيار المحافظ الأكثر تشددا. فقد كانت بايلن خلال الحملة الانتخابية قريبة جدا من هذا الجمهور بل بدت واحدة منه, ولكن بسطحيتها الفائقة وليس ببساطتها. فهي لم تبذل أي جهد لتبسيط خطابها لا لشيء إلا لأنه شديد السطحية إلي الحد الذي وصفه أحد الساخرين منها بأنه لا يساوي فلسا واحدا مما أنفقته حملة ماكين علي ملابسها. ولذلك أحدث ترشيح بايلن لمنصب نائب الرئيس نكسة لدور المرأة في الحياة السياسية الأمريكية, فقد أهدرت الطفرة التي كانت قد تحققت في هذا الدور خلال المعركة الحامية التي خاضتها هيلاري كلينتون سعيا إلي الحصول علي ترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب الرئيس, وخسرتها في النهاية أمام باراك أوباما. فالنموذج الايجابي الذي قدمته السيدة كلينتون يتواري الآن وراء الانطباع الذي خلفه أداء بايلن التي فشلت في استثمار ما كان لديها من مؤهلات جيدة, ومن أهم هذه المؤهلات نجاحها الكبير في حل المعضلة الأكبر التي تواجه المرأة في هذا العصر وهي التوفيق بين عملها وأسرتها. ويبدو نجاحها لافتا للانتباه لأنها لم توفق بين عمل عادي وأسرة صغيرة, وإنما بين عمل سياسي مضن للوصول إلي منصب حاكمة ولاية ألاسكا من ناحية وأسرة تتكون من سبعة أفراد, وليس ثلاثة أو أربعة كالمعتاد في الغرب الآن, من ناحية أخري. ولذلك تمثل تجربتها الذاتية تجسيدا للحلم الأمريكي في أحد جوانبه الأكثر أهمية, باعتبارها امرأة طموحا صعدت السلم المهني والاجتماعي بنجاح واضح, وجمعت بين لقبين يثيران خيال أي امرأة وهي ملكة جمال ولايتها ثم حاكمة هذه الولاية. ولكنها لم تدرك قيمة هذه التجربة ومغزاها, ولم تتوافر لديها المعرفة والثقافة اللازمتان لتقديم نموذج لنجاح المرأة يجذب إليها أصوات النساء علي نحو يتجاوز الانتماء الحزبي والتفضيل السياسي. وركزت بايلن بدلا من ذلك علي دغدغة مشاعر الجمهور المحافظ مسلوب العقل الذي يعتقد أن رفض الاجهاض هو القيمة العليا في الحياة. فكان أكثر ما أثار انبهار هذا الجمهور في تجربتها الذاتية هو رفضها ذات يوم أن تجهض نفسها حتي بعد أن عرفت من خلال الاختبارات قبل الولادة أنها ستنجب طفلا معاقا. والمدهش هنا أن بايلن التي لا تعرف الكثير مما ينبغي لأهل السياسة الإلمام به لم تكن تدرك أن معظم النساء الأمريكيات يؤيدن الحق في الاجهاض لأسباب محض عملية في أي مجتمع يقبل العلاقة بين الرجل والمرأة بدون زواج. ولذلك, وبمنأي عن حالة بايلن, يبدو الإفراط في رفض الإجهاض دون ربطه بمعارضة هذه العلاقة ضربا من الازدواج والتناقض. ويعرف الجميع أن ابنة بايلن أقامت علاقة بدون زواج وحملت من صديقها. ومثلما فزع غير قليل من نخبة الحزب الجمهوري لترشيح بايلن نظر إليها كثير من النساء الأمريكيات بكثير من القلق فقد شعرن بالاحباط لأن تكون بايلن هي النموذج النسائي. لم يجدن أنفسهن فيها. فهن يردن لصورة المرأة ما هو أفضل منها بكثير. ولذلك تجاوز رد فعل كثير من النساء الاعتراض علي ترشيحها أو اتخاذ قرار بعدم الاقتراع للبطاقة الجمهورية إلي السخرية منها, ولم يقتصر ذلك علي المدونات التي حفلت بهذه السخرية والتجمعات النسائية التي تحولت فيها بايلن إلي مادة فكاهية. فقد ظهر موقف المرأة الأمريكية تجاهها قبل أيام قليلة علي يوم الاقتراع في عيد الهالوين الذي يحييه الأمريكيون بحفلات تنكرية يحسنون الاستعداد لها. فكان القناع الذي يمثلها هو الأكثر مبيعا في ذلك العيد. وإذا كان لحالة بايلن هذه دلالة عامة تتجاوز الانتخابات والسياسة الأمريكية بوجه عام, فهي أن المرأة لا يمكن أن تحصل علي أصوات النساء لمجرد كونها امرأة. والحال أن ترشيح بايلن لم يكن خسارة لها وحدها, وإنما لمن اختارها علي بطاقته الانتخابية وفقد بسببها اصواتا نسائية كان من الممكن أن تذهب إليه. كما كان ترشيحها خسارة لحزبها ليس فقط في هذه الانتخابات التي كانت هزيمته فيها متوقعة في كل الأحوال, لكن ايضا في الانتخابات المقبلة إذا كانت بايلن قد صدقت أن مكانا ينتظرها في واشنطن, ولماذا لا تصدق وهي تفتقد الأدوات المعرفية والعقلية لاستخلاص الدروس. كما أن القاعدة المحافظة المتطرفة التي انبهرت بها ستدفع في اتجاه إعطائها دورا أكبر في الحزب الجمهوري بمساندة بعض قادته الذين يفسرون خسارته بارجاعها إلي مؤامرة شيطانية وليس إلي خطايا إدارتي بوش وأخطاء أخري من بينها ترشيح بايلن لمنصب نائب الرئيس. عن صحيفة الاهرام المصرية 18 / 11 / 2008