هل أفلتت مصر من الأزمة المالية العالمية؟ د. علي عبدالعزيز سليمان مع نهاية أجازة عيد الفطر المبارك, مازالت تداعيات الأزمة المالية العالمية تتفاقم, وقد أطاحت أزمة التمويل العقاري في الولاياتالمتحدة بمجموعة من البنوك وبيوت المال العتيدة, التي كانت مثالا للانضباط المالي والصمود في وجهة أزمات أخري عاتية, وانخفضت البورصات الأمريكية والأوروبية والآسيوية بمعدلات غيرر مسبوقة منذ أيام الكساد العالمي الكبير, وبالطبع امتدت الأزمة إلي شركاء أمريكا التجاريين, وانكشفت بعض البنوك الأوروبية والآسيوية واضطرت الحكومات للتدخل. وفي مصر تسرع البعض بالقول إننا أفلتنا من التداعيات المالية اللازمة, واستندوا في حكمهم هذا الذي كان الغرض منه تهدئة الأسواق بدلا من البحث عن الحقيقة إلي أن البنوك المصرية إلي حد كبير لم تسهم في شراء الصكوك المالية التي تستند إلي العقارات الأمريكية ذات الضمانات دون الحدية. وبالرغم من صدق هذا التحليل, سنبين في هذا المقال أن هناك أسبابا أخري للقلق من أن تكون مصر معرضة للتأثر بالموجة العاتية التي أطلقتها أزمة الإقراض العقاري الأمريكي, واقترح روشتة تحصن مصر منها. نتجت أزمة البنوك الأمريكية والأوروبية والآسيوية عن تورطها في التوسع الائتماني للقطاع العقاري الأمريكي حتي للمقترضين من ذوي الدخول المنخفضة وغير المنتظمة, وأدي التوسع في الائتمان العقاري إلي توفر فرصة امتلاك منزل خاص إلي فئات ضعيفة مثل سائق تاكسي, أو مساعدة ممرضة, أو عامل موسمي, ولم تهتم البنوك كثيرا بالقدرة المالية للمشتري, طالما توقع الجميع استمرار الرواج وارتفاع أسعار العقارات.. فالبنوك قادرة علي الحصول علي حقوقها بالاستيلاء علي العقار وبيعه بسعر مرتفع. ولقد أسهمت الصحافة الاقتصادية الغربية, ناهيك عن شركات التمويل العقاري والمؤسسات العالمية الاقتصادية, في تزيين الاندفاع في التمويل العقاري, وظهرت علينا مجلة الايكوزميست الانجليزية العتيدة منذ سنتين بمقال رئيسي يوضح أن الازدهار العالمي غير المسبوق يرفعه الزيادة غير المسبوقة في الإنفاق الأمريكي نتيجة إحساس المستهلكين بزيادة قيمة بيوتهم مع استمرار الرواج العقاري. وبالطبع فإن الإقراض للمستهلكين الضعفاء كان يولد أرباحا أعلي من تلك المتوافرة في الأسواق, وشارك الجميع في هذا الصيد الرابح وتغلبت مشاعر الطمع علي مقتضيات الحذر, وشاركت البنوك الأوروبية والأجنبية في هذا المحفل الصاخب, ذلك أن العجز التجاري الأمريكي جعل تلك البنوك الأجنبية تحمل أرصدة دولارية كبيرة, وفي العادة ما كانت تستثمر تلك الأموال في السندات الحكومية الأمريكية, أما الآن فقد أتاحت الصكوك البنكية المصدرة من البنوك الأمريكية المعتمدة علي العقارات الأمريكية أوراقا مالية أكثر عائدا, وبدون مخاطر كبيرة, هكذا توقعوا, وكما يقول المثل المصري: لا يقع إلا الشاطر! هل أفلتنا من الأزمة؟ بداية, من الواجب أن نشير بالتقدير لدور وبصيرة السيد فاروق العقدة محافظ البنك المركزي المصري الذي منع البنوك من الانغماس في المضاربات العقارية, وحدد سقف تمويل العقارات بما لا يزيد علي5% من إجمالي قروضها, مع ذلك لم يحن الوقت بعد لأن نتنفس الصعداء, وأن ننطلق فرحين بالإفلات من براثن الأزمة المالية العالمية, وحتي لو كانت بنوكنا لم تسهم في شراء الصكوك العقارية الأمريكية, فإن من المتوقع أن نتأثر بالأزمة, هذا ليس فقط بسبب ارتباطنا بالاقتصاد العالمي, ولكن أيضا لأننا قد استوردنا خلال السنوات العشرين الماضية آليات أفقدت الاقتصاد المصري بعض عناصر الوقاية الذاتية من العدوي بالأزمات العالمية, وذلك علي النحو التفصيلي التالي: 1 تشكل مشتريات العرب والأجانب نسبة عالية من تداولات البورصة المصرية, ولقد سمحت قوانين الانفتاح الاقتصادي منذ أوائل التسعينيات للأجانب بالشراء والبيع مباشرة في البورصة المصرية, وأصبحت البورصة المصرية من أكثر البورصات انفتاحا في العالم العربي, وتصل نسب عمليات الأجانب في البورصة المصرية في بعض الأوقات إلي ما يزيد علي50% من إجمالي التداول وبالذات في قطاع البنوك والأسمنت والحديد, ومن المعروف أن المستثمر الأجنبي يتأثر في قراره بتداعيات أسواقه الأصلية, فإذا انخفضت أسعار نيويورك باع في أسواق مصر أو البرازيل أو سنغافورة, وأحيانا تنقل العدوي من سوق إلي آخر بدون أن يكون هناك مشاكل في السوق الأصلية, فإذا انخفضت أسعار البرازيل, قد يبيع المستثمر الأجنبي أسهمه في السوق المصرية ليعوض خسائره, وهكذا. ولقد لوحظ في السنوات الأخيرة زيادة ارتباط سوق الأوراق المالية المصرية بمتغيرات سوق نيويورك بصورة كبيرة. 2 تتعرض بعض الشركات المصرية مباشرة لتقلبات البورصات العالمية بسبب إصدار أسهمها في أكثر من بورصة, فهناك اتفاقات تسمح بالقيد المزدوج مع بعض البورصات العربية, والأخطر من ذلك هو ما يسمي شهادات الإيداع العامة(GDR), التي تصدرها الشركات المصرية ويتم تداولها في سوق لندن تحت هذه الآليات, وكان الغرض من إصدار هذه الشهادات هو توسيع مصادر التمويل للشركات المصرية, مع ذلك لم يكن هذا الحل بدون تكلفة, فالتمويل الموسع كان متاحا فقط في الأوقات الطيبة, ولكن في مناخ استثماري مليء بالغيوم والأعاصير يختفي هذا التمويل, وبالتالي ما أن يبدأ الأجانب في التخلص من هذه الشهادات, فمن المؤكد أن تنخفض قيمة السهم المصري بنفس الدرجة, وهو ما يوجد ارتباطا مباشرا بين تقلبات الأسواق الأجنبية وأداء البورصات المصرية. 3 السبب الثالث هو وجود بنوك أجنبية عاملة في السوق المصرية, وهناك اليوم عدد من البنوك الأجنبية التي يعتمد القرار الاستثماري فيها علي قرارات المقر الرئيسي, ومن المتوقع أن تعرضت البنوك الأجنبية في مقارها الرئيسية لخسائر كبيرة أو ضيق في الائتمان أن يؤثر هذا أيضا في عملياتها في مصر, فإذا قبضت يدها في لندن أو بروكسل, من المحتمل أن تفعل الشيء نفسه في القاهرة. 4 كانت المشتقات السبب الرئيسي للأزمة المالية العالمية, ولقد سماها وليم بفت, الداهية المالي المعروف, أسلحة الدمار المالي الشامل. ولقد بدأت هيئة سوق المال في مصر تقبل التعامل علي المشتقات, وكانت وزارة الاستثمار قد هيأت لدخول تجارة المشتقات بتغيير اللائحة التنفيذية لهيئة سوق المال, وسمحت بالمضاربة علي اتجاهات البورصة عن طريق تداول أوراق مالية ترتبط قيمتها بتوقعات المؤشر, ويشكل هذا المتغير الجديد عنصرا إضافيا من المخاطر في الأسواق المالية المصرية. 5 عدوي هوس الاستثمار العقاري, شهدت السوق المصرية ثورة عقارية عارمة, كانت إلي حد كبير امتدادا لمثيلتها في الدول العربية المجاورة وبالذات في دول الخليج, ولقد شهدت السوق المصرية قدوم عدد من الشركات الخليجية الكبري التي أغدقت في شراء مواقع عقارية والإعلان عنها, ويتسبب هذا التشابك في الأسواق العقارية إلي انتقال العدوي من سوق إلي آخر, فإذا تأثرت هذه الشركات الكبري بأسواقها الأصلية وقبضت يدها عن الاستثمار في مصر, فسوف يؤثر هذا علي باقي قطاعات الاقتصاد القومي, كذلك فإن تحويل أرباح هذه الشركات إلي الخارج يمثل اقتطاعا من القوة الشرائية المصرية وعاملا من عوامل انخفاض الطلب العام. كذلك فإن التوسع الاستهلاكي الكبير الذي شاهدناه في الفترة الأخيرة قد نتج من زيادة ثروات المستهلكين نتيجة لارتفاع قيمة ما يملكونه من عقارات, وبالطبع أسهمت أرباح المضاربة علي العقارات في زيادة الإنفاق العام وحتي في زيادة اللعب في سوق الأوراق المالية, ولقد لوحظ أن أسواق العقار المصرية قد أخذت في التراجع, وسوف يؤدي هذا بدوره إلي دورة عكسية من انخفاض انفاق المستهلكين ومن تراجع البورصة. اقتراحات لزيادة مناعة الاقتصاد المصري أصبحت مصر جزءا من الاقتصاد العالمي, ولا يمكن أن نطالب بعزلها عنه, مع ذلك, فإن الأزمة المالية الحاضرة, وما سبقها من أزمات جنوب شرق آسيا منذ عشر سنوات, أكدت أهمية أن يكون هناك إطار رقابي قوي, بل وتدخل حكومي سافر في أداء الأسواق. وسوف نشير في عجالة إلي بعض التوجهات الرقابية التي قد تأخذ بها السلطات المصرية في تنطيم عمليات سوق المال, وزيادة حصانة الاقتصاد المصري. ولعل أول هذه الإجراءات هي زيادة الرقابة علي الاستثمارات المالية للأجانب في السوق المصرية, ولعل الوقت قد آن لتقييم دور الأموال الأجنبية في البورصة المصرية, وعدم تشجيع الأموال الساخنة علي اللعب فيه, ولقد رأينا كيف أن تعاملات الأجانب لها تأثير قوي علي مؤشر البورصة المصرية. ولعل أنجع السبل للحد من مضاربات الأجانب في البورصة هو في فرض ضريبة بسيطة علي الأرباح الرأسمالية المحققة علي العمليات قصيرة الأجل. إذ من المنطقي, إذا كان الغرض من السماح للأجانب بدخول البورصة المصرية هو توفير التمويل اللازم للتنمية الاقتصادية, أن ينحصر الإعفاء الضريبي للأرباح الرأسمالية القائم اليوم علي التمويل متوسط وطويل الأجل. ولقد فرضت ألمانيا مثل هذه الضريبة بمعدل15% من الأرباح الرأسمالية التي يحققها الأجانب. ويقترح الاقتصادي الفرنسي ورد أن يتناسب معدل ضريبة الأرباح الرأسمالية عكسيا في فترة الاحتفاط بالسهم, فكلما زادت مدة الاحتفاظ بالسهم قل معدل الضريبة. كذلك ننادي أن تراجع هيئة سوق المال القواعد التي تحكم التجارة بالمشتقات في البورصة المصرية, ومن اللازم إحكام الرقابة علي هذه التجارة, والاستماع إلي الأصوات العاقلة التي بدأت تظهر في الغرب والتي أصبحت تسمي هذه المشتقات أسلحة الدمار الشامل, والتي سبق أن سببت إفلاس بنك بارنجز العتيد, كذلك يجب العمل علي تقييد عمليات البيع الآجل, وبالذات في حالة عدم تملك البائع للأصل المباع, أو ما يسمي في لغة اليوم بالبيع علي المكشوف. وأخيرا يجب أن ندعم سياسة البنك المركزي المصري ليس فقط في الابتعاد عن استخدام الائتمان المصرفي في المضاربات العقارية, بل أيضا في التركيز علي استخدام هذا الائتمان في زيادة القدرة الإنتاجية في الاقتصاد المصري. عن صحيفة الاهرام المصرية 11/10/2008