رجب البنا دعت الحكومة المصرية لأول مرة إلى حوار مجتمعي، حول قضية الدعم وهي أهم القضايا التي تمس أبسط حقوق الفقراء وهو الحق في الحصول على الحد الأدنى من الطعام، وطرحت الحكومة قبل بدء الحوار خيارين لا ثالث لهما : أن يكون الدعم نقديا فيصرف مبلغ معين لكل من يستحق الدعم، أو أن يبقى الدعم كما هو الآن أي بمساهمة الحكومة في تغطية جزء من الثمن الحقيقي للسلع لكي يحصل عليها المحتاجون بأسعار تتناسب مع أحوالهم وقدراتهم. ومؤدى ذلك أننا لن نبدأ الحوار من البداية الصحيحة، لأن الحوار يجب أن يبدأ أولا بالقضية الجوهرية التي جعلتنا نفكر في الدعم بالنقد أو بالسلع وهي قضية الفقر في مصر .. الفقر هو التحدي الأول أمام هذه الحكومة كما كان أمام الحكومات التي سبقتها وسيظل كذلك أمام الحكومات التي، ستأتي بعدها، وسيظل القضاء على الفقر والجوع الهدف الأول الذي سيكون رضا الشعب أو عدم رضاه على الحكومة بقدر ما تحققه من نجاح فيه .. وليس ذلك غريبا أو جديدا، فالفقر موجود في العديد من دول العالم كما هو موجود عندنا، وكل الحكومات الرشيدة تجعل مهمتها الأولى وضع استراتيجية متكاملة وتنفيذ السياسات والإجراءات التي تؤدي إلى تخفيف وطأة الفقر على الفقراء وتحسين أحوالهم، وإذا لم تحقق ذلك فإن الناس لن يشعروا بحاجتهم إلى حكومة أو بانتمائهم إلى وطن. وقد نبهنا تقرير التنمية البشرية في عام 2006 إلى أن مصر تحتل الترتيب 44 في دليل الفقر، وأن نسبة السكان تحت خط الفقر يمثلون 3% من المصريين، وأن الذين يعيشون عند خط الفقر يمثلون 44% أي حوالي 32 مليون إنسان، وأن نصيب 20% من المواطنين 6,8% من الدخل القومي، ونصيب القلة الأكثر غنى 43% من الدخل القومي. ووفقا لتقرير التنمية البشرية فإن الفقراء يشتغلون بأعمال هامشية لا تدر ما يكفيهم، أو أنهم عاطلون، ويعيشون في مناطق يسميها البنك الدولي أحزمة الفقر، وهي المناطق العشوائية والقبور والشوارع .. وفي بحث للدكتورة مها الكردي الأستاذ بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية أكدت أن تزايد البطالة والفقر كان نتيجة أساليب تطبيق الاقتصاد الحر، الذي أثر تأثيرا سلبيا على الفقراء، فقد تم رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية كليا أو جزئيا، ومع زيادة التضخم وانسحاب الدولة ارتفعت الأسعار، مما أدى إلى تخفيض الإنفاق العام على الخدمات التي يستفيد منها الفقراء وتزايدت البطالة مع سياسة الخصخصة، وكل ذلك دفع الفقراء إلى البحث عن لقمة العيش بأية وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، وفي أحسن الأحوال فإن جانبا من النساء يعملن كخدم في البيوت، ويعمل جانب من الرجال والنساء والأطفال في مسح الأحذية، أو بيع المناديل الورق، أو المناداة على زبائن سيارات الميكروباص، وهي أعمال ليست دائمة وليس لها دخل ثابت وتطاردهم الشرطة .. ولابد أن نضع في اعتبارنا أن 13 مليون مواطن يسكنون في المناطق العشوائية حيث تنتشر الجرائم والمخدرات فهل يعرف هؤلاء كيف وأين يتقدمون بطلب الدعم النقدي من الحكومة؟ القضية التي يجب أن تكون بداية الحوار هي الفقر، والاتفاق على تعريف الفقر وحصر الفقراء، والقدرة على الوصول إليهم والتعامل معهم، ووضع استراتيجية لتحسين أحوالهم، وبذلك يشعر نصف المصريين بأن هناك مبررات لوجود حكومة، وبعد ذلك نفكر في تعديل نظام الدعم بما لا يؤدي إلى الإضرار ب 80% يستفيدون بالدعم ويستحقونه، لكي نحرم 20% يحصلون على الدعم ولا يستحقونه. الدكتورة مها الكردي تدق أجراس الخطر بشدة على الخطر الذي يتهدد المجتمع المصري والذي يتمثل في آثار الفقر على البناء الأسري، والأسرة هي المسئولة عن تنشئة الأبناء والتي يستمد منها الجيل الجديد الاتجاهات وأنماط السلوك والمعايير الأخلاقية والقيم الاجتماعية والثقافية . وما حدث في مصر في السنوات الأخيرة أن التغيرات الاقتصادية والسياسية واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء أدى إلى ظهور جيل من الأطفال والمراهقين المهمشين، ودون أن يجد الأطفال خاصة ما يحتاجونه من رعاية وحماية جسمية ونفسية واجتماعية وتعليمية وصحية وأمنية .. ولذلك انتشرت ظاهرة أطفال الشوارع أو الأطفال بلا مأوى وهم يتعرضون إلى كل صنوف الانتهاكات والحرمان، ووفقا لبيانات الإدارة العامة لمباحث رعاية الأحداث بوزارة الداخلية فإن معدلات قضايا التشرد، والتسول، والتعرض للانحراف المسجلة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 وأقل من 18 سنة للأعوام من 2004 حتى بداية عام 2006 بلغت 9436 قضية تشرد، و 12845 قضية تسول، و 29869 قضية تعرض للانحراف، وهذه الأرقام لا تمثل الحجم الفعلي للمشكلة لإحجام الأسر الفقيرة عن الإبلاغ عن اختفاء أبنائهم أو هروبهم، لأن الأسر هي في الغالب السبب المباشر في دفع الأطفال إلى الشارع، نتيجة الفقر والعجز عن إعالة الأبناء. والدراسات الاجتماعية التي أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر أظهرت الارتباط بين الفقر والفشل في التعليم واضطرار الأسرة إلى دفع أطفالها إلى الشارع للحصول على دخل - بأي طريق - لتوفير الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، وقد أشارت نتائج استفتاء أجراه الجهاز المركزي للإحصاء في مصر إلى ان نسبة الأسر ذات المستوى الاقتصادي المتدني التي دفعت أبناءها الي الشارع للحصول على ما يساعد في إعالة الأسرة بلغت 51% في المدن و 75% في الريف مما يعني أن عمل الأطفال بين 7 سنوات وحتى15 سنة يمثل نسبة أساسية في دخل أكثر من نصف الأسر في المدن وثلاثة أرباع عدد الأسر في الريف وهي الأسر التي تعيش تحت خط الفقر. كل ذلك من نتائج الفقر، وقد أشار تقرير التنمية البشرية الصادر عن معهد التخطيط القومي في مصر إلى أنه بناء على تزايد معدلات الفقر وازدياد أعداد الفقراء فإن الدولة إذا لم تتبن استراتيجية للتخفيف من حدة الفقر فإنه سيترتب على ذلك نتائج سيئة . ويقول التقرير إنه من المؤكد أن تزداد أحوال هذه الأسر سوءا بسبب عمليات الإصلاح الاقتصادي المتسارعة، وتأثير الضغوط الخارجية والإقليمية، بالإضافة إلى العوامل المتعلقة بالفقراء أنفسهم وظروف حياتهم ومستوى تفكيرهم أو بسبب موت عائل الأسرة أو هجره لأسرته، أو بسبب العجز الصحي، وبذلك تنتقل مسئولية إعالة الأسرة إلى الأم فتضطر الأسر في هذه الظروف إلى تشغيل الأطفال وحرمانهم من التعليم، بل حرمانهم من طفولتهم. هذه بعض وليس كل الحقائق عن الفقر والفقراء من واقع الأبحاث التي تجريها الهيئات العلمية المختصة في مصر، وكلها توجه إنذارا بخطورة تزايد معدلات الفقر، وهذا ما يجعلني أقول إن الحوار حول الدعم يمكن أن يؤجل أو ينتظر إلى أن ننتهي من الحوار حول الفقر وأسباب تزايده ووضع استراتيجية لمواجهته، وبعدها يبدأ الحوار حول الدعم، هل يكون دعما مباشرا بصرف مساعدة مالية للفقراء أو غير مباشر بمساهمة الحكومة في تحمل جزء من تكلفة السلع التي يستهلكها الفقراء. عن صحيفة الوطن القطرية 6/1/2008