عن العلاقة بين الدولة والسوق د. علي الدين هلال البحث في قضية التنمية ورسم سياساتها يثير موضوع العلاقة بين الدولة والسوق وارتباطاتها بالمنافع العامة في المجتمع وبالدور الاقتصادي والاجتماعي للسياسات العامة والحكومية فمن الأمور المسلم بها في الفكر الاقتصادي المعاصر أن دور الدولة ضروري للتعامل مع نواقص السوق وأن هذا الدور مهم لتحقيق الكفاءة والإنصاف في تخصيص الموارد وتوزيعها. ومع الاقرار بأن الأسواق لديها آليات التصحيح الخاصة بها من خلال تفاعل قوي العرض والطلب والأسعار والتي تقوم علي عدد من الافتراضات المتعلقة بسلوك المنتج وسلوك المستهلك فان تلك الآليات تتوقف عن العمل عندما تتعرض السوق لاختلالات رئيسية مثلما حدث في البرازيل وعدد من الدول الآسيوية في التسعينيات من القرن الماضي, وتطلب الأمر تدخل الدولة لإعادة آليات السوق الي العمل وإذا تجاوزنا عن مثل هذه الحالات الطارئة والاستثنائية فإن آليات السوق تفترض وجود حالة المنافسة حتي يمكن لقوي العرض والطلب أن تعمل بكفاءة ولكن عندما يسود وضع أو ممارسات احتكارية فإنه يكون من شأنها وقف هذه الآليات وهو مايتطلب أيضا تدخل الدولة. وللدولة دور آخر يتمثل في ضمان تزويد المواطنين بالمنافع العامة الضرورية لبقاء المجتمع واستمراره ومفهوم المنفعة العامة يشير الي السلع والخدمات التي تحقق منافع تتجاوز المصلحة الفردية لمستهلكها أو صاحبها وعلي سبيل المثال فإن التعليم يبدو لأول وهلة أنه منفعة فردية للشخص المتعلم ولكن عندما ندقق في الأمر يتبين لنا أنه منفعة عامة لأن الإنسان المتعلم أكثر قدرة علي الانتاج وأكثر قدرة علي التعامل مع وسائل التكنولوجيا المتقدمة وأكثر قدرة علي تحقيق قيمة مضافة مما يؤدي الي رفع كفاءة الأداء وجودة المنتج في الشركة أو المؤسسة أو الهيئة التي يعمل بها ومن ثم فإن التعليم هو منفعة عامة وبنفس المنطق فإن الخدمات الصحية هي أيضا منفعة عامة. وعبر تطور الفكر الاقتصادي والإجتماعي ومن خلال خبرات الدول المختلفة توسع دور الدولة أحيانا وتقلص أحيانا أخري في مجال علاقة الدولة بالسوق. ففي المرحلة الأولي من تطور الرأسمالية ساد مبدأ دعه يعمل دعه يمر والذي أطلق كل الحريات للنشاط الفردي وقلص دور الدولة في تحقيق الأمن وتسوية النزاعات ومع نضج النظام الرأسمالي واتساع قاعدته الانتاجية برز مفهوم دولة الرفاهية ووفقا له فإن للدولة التزامات ومسئوليات اجتماعية تتصل بضمان الحد الأدني للأجور والمعاشات وتوفير فرص التعليم والخدمات الصحية ونظم الضمان الاجتماعي ضد البطالة وبلغ هذا الاتجاه أقصاه في دول الشمال الأوروبي كالسويد والنرويج ورافق ذلك ظهور مجموعة الدول الاشتراكية في شرق أوروبا أغلب الدول النامية سياسات كان من شأنها الإدارة الحكومية للأنشطة الاقتصادية. ومع منتصف السبعينيات وازدياد عبء الانفاق الاجتماعي علي الحكومات في الدول الصناعية المتقدمة وتعثر مسار التنمية في أغلب الدول النامية برز مرة أخري الفكر الذي يركز علي التوسع في دور القطاع الخاص ويدعو الي تحديد وظائف الدولة في المجال الاقتصادي وكان رمز تلك الأفكار والسياسات مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في الولاياتالمتحدة. وكانت هذه السياسات بداية لمرحلة جديدة من علاقة الدولة بالسوق وبالدور الاجتماعي للدولة وسرعان ماأصبحت هذه الأفكار هي الموقف المعتمد دوليا والمقنن في اتفاقية الجات ومنظمة التجارة العالمية. ورافق ذلك ثورات دول شرق أوروبا ثم الانهيار الكبير في الاتحاد السوفيتي والتسابق من أجل الالتحاق بنظم اقتصاد السوق. التوجه الرئيسي في العالم اليوم يؤكد دور القطاع الخاص باعتباره الفاعل الأساسي في اقتصاد أي بلد وبيع أو خصخصة وحدات القطاع العام التي تملكها الدولة وتحرير التجارة. ويتضمن هذا التوجه إعادة تعريف علاقة الدولة بالسوق, كما يتضمن أن بعض الأدوار والمسئوليات التي كانت تقوم بها الدولة سوف تنتقل الي القطاع الخاص. وهو مايثير السؤال ماهي هذه الأدوار والمسئوليات؟ وهل يمكن أن تتراجع الدولة عن مسئوليتها في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة؟ وماهو تأثير ذلك علي الاستقرار الاجتماعي والسياسي؟ والأمر المؤكد أنه في حالة مصر فإن هناك مايشبه الاتفاق العام علي أهمية استمرار دور الدولة ومسئوليتها الاجتماعية. نجد ذلك في المباديء الأساسية للحزب الوطني الديمقراطي كما نجده في أغلب برامج الأحزاب الأخري والتي تشير كلها إلي دور واضح للدولة في توفير الخدمات والمنافع العامة الرئيسية. وأن للدولة دورها في تصحيح اختلالات السوق من خلال ضمان المنافسة ومنع الاحتكار وحماية المستهلك. ومؤدي ذلك أن تبني سياسات اقتصاد السوق والسعي للاندماج في الاقتصاد العالمي لايعني بالضرورة انسحاب الدولة وتخليها عن مسئولياتها الاجتماعية ولكنه يتضمن إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والسوق وتغير الأساليب والأدوات التي تستخدمها الدولة في تنظيم الأنشطة الاقتصادية وضبط حركتها فالدولة هي المسئولة عن الارتقاء بمستوي معيشة المواطن, وتوفير الخدمات الاساسية له وهي المسئولة عن وضع القواعد وتبني السياسات الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف. عن صحيفة الاهرام المصرية 15/9/2007