قبل أربعة أعوام من الآن كانت القمة العربية السادسة عشرة في الرياض قد اتخذت- بمبادرة مصرية كويتية- قرارا بعقد قمة عربية تناقش القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتنموية كل عامين. وفي يناير من العام قبل الماضي بدأت أولي تلك القمم في دولة الكويت. وكانت أول قمة عربية من نوعها تخصص لمناقشة هذه النوعية من القضايا العربية بعد أن ذهبت قضايا العرب وأزماتهم السياسية بجهد القادة لعقود طويلة, وخلال الأسبوع المقبل تعقد القمة العربية الاقتصادية الثانية في شرم الشيخ. أخيرا فرضت القضايا الاقتصادية والتنموية نفسها علي أجندة القمة العربية. أخيرا عرف العرب أن السياسة وحدها لاتكفي, ولم يعد من المقبول أن تتراكم القدرات الاقتصادية العربية وتتعاظم عاما بعد آخر بينما تتفاقم معدلات الفقر والبطالة وتتدهور الأوضاع المعيشية للمواطن العربي بوجه عام, ويتضاءل حجم التجارة البينية العربية, وكذلك حجم الاستثمارات المحلية وتهاجر رءوس الأموال العربية إلي خارج أراضي العرب وتهاجر معها الكفاءات والعقول العربية, وتتراجع مخرجات العملية التعليمية التي تتطلبها التنمية والمنافسة العالمية في سوق مفتوحة. هذا التناقض الهائل خطيئة عربية يتحمل مسئوليتها الجميع.. الأغنياء والفقراء منهم جميعا. وليس هناك ملاذ لحل ذلك التناقض سوي القادة العرب أنفسهم, لتجسير الفجوة المعيبة بين المتناقضين, فقد برهنت الأحداث والأعوام أن تجسير تلك الفجوة يصب في مصلحة الجميع حفاظا علي المصالح العربية العليا في نهاية الأمر, لانريد لدولة عربية واحدة أن تذهب إلي تلك القمة باحثة عن منفعة خاصة, فالتكامل الاقتصادي الحقيقي لابد أن يقوم علي المنافع المتبادلة وتحقيق شراكة حقيقية في ثمار التكامل الاقتصادي. ومصر التي تستضيف القمة الاقتصادية الثانية توفر فرصا هائلة للاستثمارات العربية وتطرح الكثير من المشروعات التي تحقق المنفعة لها وللمستثمرين علي السواء. كما أن مصر قطعت خطوات واسعة علي طريق الإصلاح الاقتصادي بما يؤهلها للتكامل مع متطلبات السوق العالمية الحرة. أصبح لديها قطاع خاص قوي وقادر علي إنجاز النسبة الغالبة من خطط التنمية المختلفة. وأحدثت إصلاحات هيكلية زادت من قدرتها علي جذب الاستثمارات الخارجية, وهي بذلك تمثل قوة إقليمية قادرة علي تشجيع مبادرات التكامل الاقتصادي العربي المبني علي فكرة المنفعة المتبادلة. وفي ضوء تجربة القمة الاقتصادية الأولي بدولة الكويت, فإن هذه النوعية الجديدة من القمم العربية ربما كانت أكثر قدرة علي جذب الاهتمام وترميم التصدعات في التكامل الاقتصادي العربي الذي ظل حلما يراود الكثيرين, ممن ساورتهم الشكوك في جدوي القمم السياسية في ضوء تناقضات السياسة وتعقيداتها في المنطقة العربية. فالقمة الأولي في الكويت لقيت اهتماما هائلا سواء في التحضير لها وردود الأفعال بشأنها والعدد الهائل من المشروعات التي نوقشت وكذلك القرارات الصادرة عنها في جميع المجالات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية. برغم أن تلك القمة انعقدت في توقيت العدوان الإسرائيلي علي غزة. وبصرف النظر عن حجم ما تم تنفيذه من قراراتها تلك القمة, فإنها خطوة علي طريق لابد أن نعترف بأنه طويل ولكنه بدأ.. وإذا كانت القمم الاقتصادية العربية قد بدأت قبل عامين في ظل الظروف الحرجة التي خلفتها الأزمة الاقتصادية العالمية وما تركته من تأثيرات علي الاقتصادات العربية. فقد بات أمر تفعيل آليات التكامل الاقتصادي ضرورة حياة, لمواجهة التهديدات والتحديات المصاحبة للأزمة الاقتصادية المستمرة وتفعيل القدرات الاقتصادية العربية. ................................................... لقد عرفت القمم العربية لأول مرة حضورا فاعلا للقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني, اعترافا بالدور الذي يمكن أن تقوم به هذه القطاعات في مواجهة القضايا المطروحة علي جدول أعمال القمة. وتأتي قمة شرم الشيخ الاقتصادية في التاسع عشر من يناير الحالي مسبوقة بعدد من منتديات اقتصادية لرجال الاعمال وممثلي القطاع الخاص واتحادات الغرف التجارية, لتتيح المزيد من المشاركة لشركاء التنمية الحقيقيين في العالم العربي. ومن بين أهم تلك المنتديات ذلك اللقاء التشاوري الذي يضم قيادات كبري الشركات العربية, لوضع آلية تنظم مشاركات القطاع الخاص العربي, إلي جانب الحكومات في خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وسوف يتم في هذا اللقاء اختيار ممثلين لرجال الاعمال العرب لإلقاء كلمة بمطالبهم أمام الرؤساء والملوك العرب.. صوت جديد يتردد في قمة العرب, حيث لم تعد المهام الاقتصادية والاجتماعية مقصورة علي الحكومات التي كان انفرادها زمنا بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية تخطيطا وتنفيذا عنوانا علي الفشل المتلاحق في تحقيق تنمية عربية حقيقية. تعقد قمة شرم الشيخ الاقتصادية وأمامها تجربة قمة سابقة وتحديات جديدة طرأت وقوي إقليمية ظهرت وترغب في الحصول علي جزء من القدرات الاقتصادية العربية عبر اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف. فالفائض في رءوس الأموال العربية في عام2010 خاصة في دول الخليج يبلغ نحو465 مليار دولار, ومن المتوقع أن يزداد هذا الفائض عام2011 مع توقعات زيادة أسعار النفط. ومع ذلك فإن قمة شرم الشيخ يتوافر لها كثير من مقومات النجاح, لعل في المقدمة منها الإجماع العربي علي أهميتها, وما تقوم به من مراجعة شاملة لمقررات القمة الاقتصادية الاولي ومعدلات تنفيذها وتنامي اعتقاد معظم الدول العربية باهمية التعاون الاقتصادي فيما بينها وتوافر مناخ يشجع مشاركة القطاع الخاص وإصلاح اقتصادي يقترب من معايير منظمة التجارة العالمية والتوجه نحو إقتصاد السوق, وكذلك وجود تناغم أكبر في هياكل الاقتصادات العربية, وهو أمر لم يكن قائما من قبل, فقد اصطدمت جهود التكامل الاقتصادي العربي لسنوات طويلة بحقيقة الاختلافات الكبيرة بين هياكل الاقتصادات العربية والتباين الشديد في المدي المسموح به أمام القطاع الخاص, للمشاركة في التنمية.. كل هذه عوامل تزيد من فرص النجاح أمام القمة المرتقبة في شرم الشيخ. والذي ننتظره من القمة الاقتصادية في شرم الشيخ يختلف كثيرا عما اعتدناه من مقررات القمم السياسية, فلم يعد المواطن العربي المحاصر بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية قانعا بالانتظار حتي يتجاوز العرب خلافاتهم في قرارات تلقي الاهتمام الأكبر في الصياغة وليس في التنفيذ.. المواطن العربي بحاجة إلي قرارات تغير واقعه, ولاتداعب أحلاما طال انتظارها بتكامل اقتصادي عربي سمع به منذ عقود.. لانريد للقمم الاقتصادية العربية التي تعقد عليها الآمال في تحسين ظروف الحياة للمواطن العربي أن تختزل في بيانات او إعلانات خطابية محضة. نريدها سلسلة متصلة الحلقات تبني كل قمة علي ما قبلها شيئا من الإنجاز الذي يلمسه المواطن العربي في كل مكان عاما بعد آخر. وحسنا فعلت مصر والكويت والأمانة العامة للجامعة العربية أن اصرت علي أن يتصدر أعمال القمة ملف متابعة ما انتهت إليه قمة الكويت الأولي ودراسة القرارات التي لم تنفذ وهي بداية جادة للقمم الاقتصادية العربية. هناك قرار قمة الكويت الخاص بدعم وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة, والذي يدعم نمو القطاع الخاص برأسمال يبلغ ملياري جنيه. ولقي هذا القرار ترحيبا واسعا في حينه.. غير أن العامين الماضيين لم يسفرا عن أي قرارات من شأنها تفعيل هذا القرار, وقد قدمت الكويت والسعودية دعما للصندوق بلغ500 مليون دولار لكل منهما كما أعلن عدد من الدول العربية عن مساهماتها في الصندوق ومنها مصر التي قدمت20 مليون دولار, غير أن إجمالي ما تم تخصيصه من إسهامات الدول العربية لم يتجاوز مليارا و320 مليون دولار ومن المتوقع من قمة شرم الشيخ أن تعلن عن تفعيل هذا الصندوق لتحقيق تراكم في أعمال القمم الاقتصادية وحتي يشعر المواطن العربي بترجمة قرار من قرارات القمة إلي حقيقة في واقعه المعيش. ................................................... تضع القمة الاقتصادية أمامها تحقيق الحلم القديم بقيام سوق عربية مشتركة التي تتطلب زوال الحواجز أمام انتقال السلع والأفراد والخدمات ورأس المال. وهي حريات تتطلب التزاما حقيقيا من القادة العرب, وتجاوز المخاوف من أن التكامل الاقتصادي العربي يمكن أن يقلص السلطات الداخلية للحكومات العربية. وتحقيق هذه الحريات يتطلب زيادة التجارة العربية البينية التي تتطلب هي ايضا دعم وسائل النقل والمواصلات بين الدول العربية. فالوضع الحالي لشبكة الربط بين البلدان العربية يجعل الاستيراد من خارج العالم العربي أيسر, بسبب صعوبات النقل والمواصلات بين البلدان العربية. وينتظر من قمة شرم الشيخ أن تهتم اهتماما خاصا بمشروعات الربط البحري والبري ومشروع الربط بالسكك الحديدية بين الدول العربية. كما تحتاج فرص الاستثمار في البلدان العربية اهتماما خاصا. فرأس المال يذهب حيث يعامل جيدا ويبقي بالفرص الآمنة. وفي الجانب الاجتماعي تبرز مشكلات البطالة والفقر والأمن الغذائي والمائي وتطوير التعليم وتحسين الخدمات الصحية باعتبارها قضايا اساسية في مناطق واسعة من العالم العربي, وباعتبارها أيضا قضايا أصبحنا ندرك مردودها الاقتصادي بالإضافة إلي أبعادها الإنسانية. قائمة القضايا الاقتصادية والاجتماعية العربية المطروحة علي قمة شرم الشيخ طويلة ولكنها ليست مستعصية علي المواجهة, فالظروف الراهنة أكثر ملاءمة من أي وقت مضي لتحقيق الحلم العربي القديم.. فقط نحتاج إلي تجاوز الشكوك واستعادة الثقة وبعث الإرادة في القدرة علي تحقيق حلم أصبح حقيقة واقعة في مناطق واسعة من العالم. [email protected]