كأنني ريشة في مهب ريح غبية لا تعرف متي جاءت أو لماذا. وكل ما تفعله هو أن تعصف بكل ما في هذه الدنيا من أشياء صغيرة ضعيفة. بلا منطق سوي استغلال الصغر والضعف. هي رياح زمن انقلب فيه كل شيء. وضاعت الحقيقة واختفي الحق. زمن صار فيه الصغار كبارا في غمضة عين. وصارت الغلبة للقبح وتواري الجمال خجلا. الأصوات العالية النشاز أصبحت تطوقني من كل جانب. وتطبق علي أنفاسي وأحلامي. وكأن الدنيا لم تعد هي الدنيا التي أعرفها. وكأنني غريب في بلاد لم يولد ولم يعش فيها يوما.. الكذب طرد الحق. وجلس علي مقعده يتفاخر بالأباطيل. والقبح قال للقمر قم وسأجلس مكانك. ففقد الجمال معناه. وصار لاجئا يبحث عن وطن بديل. فلا يجد.. القوي أراد فجأة أن يغني. أن يصبح مطربا للحي. فاستدعي الجميع وكشر عن أنيابه وأخبرهم انه من اليوم سوف يغرد لهم. متصورا أن عضلاته تعني رخامة صوته. ولم ينتظر موافقة أو مشاورة. وبدأ في الغناء بصوت قبيح نشاز. . وحسب كل واحد من أهل الحي حسبته في الحال. ورغم فظاعة الصوت ورداءة المغني. لكن المنافقون رفعوا أياديهم بأكف التصفيق المهللة. والمحتالون أبدوا اعجابهم ببشاعة الأغاني. والخائفون وضعوا ألسنتهم في حلوقهم وآثروا السلامة! قلبي فقط هو الذي تمرد. ولم يعترف بما حدث ويحدث. قلبي قال لي وماذا تفعل البلابل والعصافير. إذا كان الغناء أصبح مقصورا علي الأقوياء؟! ولم أجد مفرا سوي الهروب من هذا النشاز. وعدوت بعيدا بعيدا قدر المستطاع. أبحث عن صوت حقيقي. عن حفيف الشجر. عن خرير الماء. عن زقزقة العصافير. عن شيء يقول لي انني مازلت علي قيد الحياة. أما أهل الحي فمازالوا علي حالهم. ومازال سيدهم القوي يغني عليهم بصوته القبيح. والمنافق فيهم يقول «الله.. الله» والمحتال يطلب المزيد ويقول «كمان». والخائف ساكت عاجز مشلول.. لكنهم جميعا فقدوا قدرة التمييز بين القبح والجمال. فقدوا آذانهم. . من بعدما تنازلوا عن ألسنتهم!