شارك الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو" في الجلسة الفكرية التي نظمتها مساء أمس مؤسسة لسان الدين ابن الخطيب للتعاون والثقافة في مدينة فاس بالمغرب . وتحدث التويجرى، خلال الجلسة الفكرية التي نظمت تكريمًا له - وفقا لبيان الإيسيسكو - عن تجربته في مجال تعزيز الحوار بين الثقافات، مستعرضًا بعضًا من جهوده التي قام بها في هذا المجال، سواء على الصعيد الفكري والأكاديمي، أو على صعيد المشاركة في المؤتمرات والندوات الدولية حول قضايا الحوار بين الثقافات. واستهل حديثه بقوله : « إن الحديث عن الحوار بين الثقافات في مجلس من "مجالس ابن الخطيب" في مدينة فاس العاصمة العلمية للمملكة المغربية، هو حديثٌ مستطابٌ يَنْسَجِمُ، من وجوه كثيرة، مع جوانبَ عديدة من حياة ذي الوزارتين العلامة الأندلسي المغربي لسان الدين بن الخطيب، الذي كان رجل دولة من الطراز الرفيع، فضلا ً عن أنه كان شاعرًا وكاتبًا وعالمًا وفقيهًا مالكيًا ومؤرخًا وفيلسوفًا وطبيبًا، درس الفقه والأدب والطب والفلسفة هنا في جامعة القرويين العتيدة. ثم انخرط في العمل العام، وتقلد مسؤوليات سياسية، وعاش التحولات التي عرفها المغربان الأقصى والأوسط والأندلس في القرن الثامن الهجري. وبذلك دخل تاريخ الثقافة العربية الإسلامية من بابه الواسع، وعرفه تاريخ الفكر الإنساني في العصور الوسطى، بصفته أحد كبار العلماء المفكرين المبدعين في حقول معرفية كثيرة». ووصف لسان الدين بن الخطيب بأنه رجل دولة، ورجل حوار، وأحد بُناة الفكر العربي الإسلامي الإنساني الذين وضعوا الأسس للثقافة الإنسانية المنفتحة على الآفاق العالمية، وزرعوا بذرة ثقافة التسامح وقبول الاختلاف والاحترام المتبادل بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات في تلك المرحلة التي كانت فيها فاس وقرطبة وحواضر أندلسية أخرى، منارات للفكر وللثقافة وللحضارة. وذكر أن تلك هي الأصول التاريخية التي بنيت عليها فكرة الحوار بين الثقافات في عصرنا هذا الذي أعطاها قوة ً وزخمًا القرارُ الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة بجعل سنة 2001 سنة ً دولية ً للحوار بين الثقافات. ثم أضاف قائلا ً : « ولكن رياح الأحداث في العالم جرت، في النصف الثاني من سنة 2001، بما لا تشتهي السفن، وبما يَتَعَارَضً مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأنتم تعرفون ماذا جرى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مما كان له انعكاسات سلبية على الجهود التي كانت قد انطلقت مع بداية السنة، لنشر ثقافة الحوار، ولتعزيز قيم التسامح بين الشعوب؛ لأن الحوار لا يفلح إذا لم يستقر في القلوب والعقول التسامحُ بين المتحاورين». وأشار إلى أن الإيسيسكو تبنت فكرة الحوار بين الثقافات في التسعينيات من القرن الماضي، أي قبل عقدٍ تقريبًا من الإعلان عن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، إيمانًا منها بأن الحوار هو اختيار الحكماء، وأن الحوار هو السبيل إلى التقارب بين الثقافات، وإلى بناء الثقة والانفتاح على آفاق العصر، وتمثل ذلك في مبادرات ثقافية قامت بها المنظمة، من خلال تنظيم مؤتمرات، وندوات، ونشر دراسات حول قضايا الحوار بين الثقافات، بالتعاون مع منظمات دولية وإقليمية وعربية إسلامية. كما قال : « لقد وجدتنا"سنة الأممالمتحدة للحوار بين الثقافات" في الإيسيسكو جاهزينَ للانخراط في جهود المجتمع الدولي من أجل تعزيز ثقافة الحوار، والإسهام في تحقيق الأهداف التي حددها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة». وذكر أنه في هذا الاتجاه سارت الإيسيسكو ولا تزال تسير، ساعية ً، وفي إطار اختصاصاتها، في دعم الجهود الدولية من أجل نشر قيم الحوار بين الثقافات، بالتعاون مع المنظمات الموازية ذات الاهتمام المشترك، وأن خطط العمل الثلاثية المتعاقبة للمنظمة، قد تضمنت برامجَ وأنشطة ً عديدة تدور حول محاور الحوار بين الثقافات، من منطلق الرسالة الحضارية التي تنهض بها الإيسيسكو. وأضاف إن الاهتمام بتعزيز الحوار بين الثقافات زاد مع تصاعد موجات الكراهية والعنصرية التي تسود في مناطق شتى من عالمنا اليوم، وبذلت جهودٌ مكثفة من أجل نشر قيم التسامح ونبذ الكراهية وإفشاء السلام الروحي والسلام الفكري والثقافي بين الأمم والشعوب، لأن هذا النوع من السلام، هو الذي يمهد السبيل لاستتباب الأمن والسلام الدوليين. ولا تزال الطريق طويلة أمام الإنسانية اليوم لبلوغ الأهداف النبيلة التي رسمها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبيَّن أنه مع تراكم الخبرات العملية، واتساع مساحات الحوار بين الثقافات وتعدّد مستوياته، انتقل الاهتمام إلى فكرة (التحالف بين الحضارات)، التي ما لبثت أن تبلورت في صيغة شمولية أكثر عمقًا، حتى أصدر الأمين العام السابق للأمم المتحدة السيد كوفي عنان، قراره بإنشاء المندوبية السامية للتحالف بين الحضارات، لتكون رديفًا للجهود الدولية التي تتواصل في مجال الحوار بين الثقافات. وقال : « لما كنت الإيسيسكو ذات اهتمام بهذه القضايا استنادًا إلى الأهداف التي نصّ عليها ميثاقها، الذي هو دستورها، ولما كانت قد أصبح لها موقعٌ متقدم على الصعيد الدولي في المجالات التي تدخل ضمن اختصاصاتها، فقد شاركت المنظمة في جميع المنتديات التي عقدتها المندوبية السامية للتحالف بين الحضارات في كل من مدريد، واستانبول، وريو دي جانيرو، والدوحة، وفيينا. وبذلك تكون الإيسيسكو عضوًا مشاركًا في المندوبية السامية للتحالف بين الحضارات، تقدم من خلال منابر منتدياتها الدولية السنوية، رؤية العالم الإسلامي إلى التحالف بين الحضارات من منطلق الحوار بين الثقافات». وكما وضح أنه في انسجام تام مع الأهداف المرسومة للحوار بين الثقافات وللتحالف بين الحضارات، نشأت فكرة (التقارب بين الثقافات) التي أطلقت اليونسكو مبادرتَها. وقد شاركت الإيسيسكو في المؤتمرات الدولية التي عقدت في بعض العواصمالغربية لتعزيز فكرة التقارب بين الثقافات. وتحدث عن تجربته الشخصية في هذا المجال، فقال : « إنني، وفي نطاق اهتماماتي الأكاديمية، أصدرت في سنة 2008 كتابًا بعنوان (على طريق تحالف الحضارات)، نشرته دار الشروق في القاهرة. وقد اجتهدت في هذا الكتاب أن أقوم بتأصيل منهجي لمفهوم التحالف الحضاري. وخلصت إلى الفكرة المحورية الجامعة التي تقوم على أساس أن التحالف بين الحضارات، هو ضرورة من ضرورات انتظام الحياة الإنسانية وتناغم عناصرها، وأن التحالف بين الحضارات، هو طوق النجاة لإنقاذ العالم من مخاطر جمّة تهدده، ولبناء جسور التفاهم والتعاون والتعايش بين الأمم والشعوب». فكرة الحوار هي إحدى الأفكار البناءة التأسيسية في المشروع الحضاري الذي ننهض به في الإيسيسكو، وأشار إلى أنه اهتم بهذه القضية أكاديميًا قبل ستة عشر عامًا، حيث نشر كتابًا في سنة 1998 بعنوان (الحوار من أجل التعايش)، صدر عن دار الشروق في القاهرة أيضًا. وقال إن هذا الكتاب، مع الكتاب الذي نشره عن تحالف الحضارات، هما من الكتب الرائدة التي عرفتها المكتبة العربية حول هذه القضايا. واستطرد في حديثه عن تجربته في تعزيز الحوار بين الثقافات على عدة مستويات، فقال : « حرصت في كتابي الذي يحمل عنوان (في البناء الحضاري للعالم الإسلامي)، الذي صدر الجزء الثالث عشر منه في الشهر الماضي، أن أقدم في فصول كثيرة منه، أفكارًا معمقة عن الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات. أنصح بالرجوع إليه مَن أراد أن يقف على المجهود الفكري الذي بذلته، من موقعي الأكاديمي ومن منصبي الوظيفي، في تأصيل ثقافة الحوار في جميع مجالاته. وقد سعيت أن أجمع بين الحوار والتحالف، فكتبت دراسة معمقة نشرتها في سنة 2009 بعنوان (الحوار وتحالف الحضارات)، صدرت في كتاب واحد مع الترجمتين الإنجليزية والفرنسية، استنتجت فيها أن الحوار مرحلة أولى على طريق التحالف، وأن التفاهم هو سبيل إلى التعايش، وهما معًا الأساسُ الراسخُ الذي يقوم عليه التحالف بين الحضارات والثقافات». وأشار إلى أن آخر ما صدر له من دراسات حول هذه القضايا، دراسة كتبها بعنوان (الإعلام والحوار بين الثقافات)، نشرت خلال هذه السنة في كتاب واحد مع الترجمتين الإنجليزية والفرنسية، عالج فيها الدور المؤثر الذي يقوم به الإعلام في تعزيز الحوار بين الثقافات. كما ذكر أنه في هذه المرحلة العصيبة التي يجتازها العالم، يَتَزَايَدُ الاهتمام بتكثيف جهود المجتمع الدولي لمواصلة العمل من أجل تعميق فكرة الحوار بين الثقافات وتعزيزها في جميع الأوساط، وليس فحسب في وسط النخب، وذلك من خلال ممارسات تنفيذية ومبادرات عملية تغطي جميع المجالات، وتشارك فيها مختلف فئات المجتمع دون استثناء. وأوضح الدكتور عبد العزيز التويجري أن الحوار بين الثقافات لكي يُؤتي أكله، وحتى تتحقق الأهداف الإنسانية المرسومة له، لابد أن يصبح ثقافة عامة تسود المجتمعات الإنسانية كافة. وقال : « إننا في الإيسيسكو، وبالتعاون مع منظمات دولية وإقليمية، نسير في هذا الاتجاه، حتى نخرج بفكرة الحوار الثقافي وفكرة التحالف الحضاري من دائرة التنظير، إلى دوائر التنفيذ في الواقع المعيش».