المؤرخ و الباحث فى التراث الفنى و حياة الفنان الكبير اسماعيل يس و السطوع الفنى فى حياته - عاش فى حياته الفنيه صديقا لملحن كان يلحّن له مونولوجاته مجاناً، فهوّن عليه الأمر وأعطاه بذلة قديمة من بذلاته وجنيهاً يتصرف به، ريثما يفرجها الله عليه. ارتدى إسماعيل البذلة القديمة فإذا به يجد في جيبها الداخلي خمسة جنيهات، يبدو أن صاحبها كان نسيها، ولكنها كانت بالنسبة الى إسماعيل كنزاً. قصد إسماعيل { لوكاندة الحميدية } في حي السيدة زينب، واستأجر جناحاً، ما يعني آنذاك غرفة مستقلة وحماماً خاصاً بها، مقابل جنيه كامل لمدة 15 يوماً. مرت الأيام وإسماعيل يأكل وينام على نفقته الخاصة، ما جعل الجنيهات الستة تنتهي سريعاً، ولم يكن أمامه سوى أن الذهاب مجدداً الى صديقه الملحّن ليقترض منه، لكنه فوجئ به يقول له:- أنا مش هديك أي فلوس سلف بعد النهارده.- إيه طيب متشكر قوي. - مش هديك سلف لكن هديك كل يوم عشرة قروش، لكن بشرط واحد. - إشرط. - متغنيش إلا المونولوغات اللي ألحنها لك أنا بس. - بس كده ده أنا تحت أمرك.- وكمان شرط تاني صغير.- أشرط للصبح - إنك تحضر الحفلات اللي أكلفك بحضورها. ومرة أخرى أعلن إسماعيل موافقته، ولم لا فقد بات يملك يومياً ثمن رغيف من {الفلافل أو الفول}، مع أجرة الفندق. وكانت الحياة السياسية في مصر مشتعلة في مطلع الثلاثينيات، وعلى رغم ذلك نجح الشيخ سيد درويش قبل رحيله في ما أطلق عليه { تثوير الموسيقى } أي جعل الموسيقى تضج بالثورة وتلهب حماسة الشعب بدلاً من الخطب، ما جعل المسارح والملاهي الليلية تعمل بشكل كامل، لاعتمادها على أشكال الغناء والموسيقى، إرضاءً للأذواق كافة، إلا أنه على رغم ذلك كانت الأزمة الاقتصادية حائلاً دون وجود حالة انتعاش، إذ كان المجتمع المصري آنذاك يشارف على انهيار اقتصادي كبير ما ترتب عليه ازدياد معدلات الفقر وتهميش غالبية الفئات الاجتماعية المطحونة وتضخّم ثروة الأقلية الأرستقراطية بمساندة الاستعمار والملك، ولهذا لم يجد إسماعيل ياسين طريقاً للخلاص من هذا الفقر سوى العمل في أكثر من مكان، ولم يكتف بالعشرة قروش التي كان يتقاضاها يومياً من صديقه الملحن. في {اللوكاندة} التي كان يعيش فيها، تعرّف إسماعيل الى أحد أهم صبيان الأسطى { نوسة } وكان ينادى باسم {عطية أفندي}، وكان هذا ال {عطية} يصنع هالة لنفسه وسط هذه الطبقة الدنيا من البشر، ممن يعملون في اللوكاندة، أو حتى بقية {الآلاتية} الذين يعملون مع {الأسطى نوسة}، أشهر راقصات أفراح الدرجة الثالثة في بر مصر آنذاك، الأمر الذي جعل إسماعيل يشعر أنه أمام شخصية مهمة. فكّر إسماعيل في مفاتحة عطية أفندي في موضوع العمل في الملهى الذي ترقص فيه {الأسطى نوسة} إما بالغناء أثناء رقصها، أو يقدم {نمرة} بمفرده. - مش برضه عطية أفندي- أيوه يا حبيبي يلزم خدمة؟- محسوبك إسماعيل أفندي ياسين أنعم وأكرم.- أنعم وأكرم اسم والدك؟- لأ ده بس شيء لزوم التحية لحضرتك. - من غير تحية أو مقدمات عايز إيه يا سي أنعم أفندي وأكرم؟ - زي ما شفت وسمعت... إن حضرتك الكل في الكل في الفرقة - وبعدين؟ - محسوبك بيغني وبيقول مونولوجات مفيش كده.- فهمت... فهمت - لو بس حضرتك تقدمني للأسطى علشان أشتغل معها يبقى كتر خيرك. - قوي قوي... دي حاجة بسيطة... بالمناسبة انت نازل فين؟ - أنا نازل هنا معاكم في الأوضة دي. - خلاص يا إسماعيل أفندي اعتبر نفسك اشتغلت. نام إسماعيل في تلك الليلة تراوده أحلام النجاح والشهرة، غير أن الصباح كان يحمل له مفاجأة حزينة، فحين استيقظ اكتشف أن {عطية أفندي} سرق بدلته الجديدة التي كان أعطاها له صديقه الملحن، وحافظة نقوده التي احتوت على 3 جنيهات هي {تحويشة} عمره. جنّ جنون إسماعيل،يس فقد تركه عطية أفندي {على الحديدة}، فما كان منه إلا أن ذهب إلى الأسطى {نوسة} نفسها ليقص عليها ما حدث، متوسلاً إليها إعادة فلوسه، فرقّ قلبها لحاله وما جرى له على يد {عطية} وأكدت له أنها هي الأخرى تبحث عن عطية هذا، وتتمنى لو تعثر عليه لتقتله لأنه سرقها وأخذ كل مصاغها، وأنها لن تستطيع أن تعيد إليه نقوده، ولكنها يمكن أن تجعله يعمل معها في فرقتها. وجد إسماعيل في ذلك تعويضاً مرضياً له، خصوصاً بعد أن عرضت عليه أيضاً حجرة فوق سطح إحدى عمارات شارع عماد الدين، ليكون قريباً من الملهى الذي تعمل فيه. غير أن العمل مع {الأسطى نوسة} لم يرق له، خصوصاً أنها كانت تعامله باعتباره {صبي راقصة} وليس مطرباً له احترامه وشخصيته، فقرر أن يتركها ويكتفي بالراتب اليومي، العشرة قروش، الذي كان يتقاضاه يومياً وفقاً للاتفاق المسبق بينه وبين صديقه الملحن.مر ما يزيد على ستة شهور، والحال لم تتبدل، وإسماعيل يس في رحلة إثبات الوجود، والبحث عن المأوى ولقمة الخبز الدائمة، وهو ما تكفله له حفلات {الأفراح وسبوع المواليد} والحفلات الخاصة التي يساعده على المشاركة فيها صديقه الملحن حمدي سالم. آنذاك، لم يكن ثمة متنفّس لمطربي ومطربات تلك الأيام سوى {الأسطوانات} أو محطات الإذاعة الأهلية، أو السفر مع الفرق الغنائية الجوّالة التي تقطع قرى ومدن الوجهين القبلي والبحري، أو رحلة إلى {بر الشام} مع الفرق الغنائية التي تتجول في ربوع فلسطين ولبنان وسورية. قرر إسماعيل أن يعاود الاتجاه إلى المحطات الأهلية ويقدم نفسه مجدّداً لها، خصوصاً أن تشهد إقبالاً لا بأس به من الجمهور، إضافة إلى أن أصحاب الملاهي والكباريهات يتعرفون من خلالها الى المطربين الجدد ويدعونهم الى العمل لديهم، لعل حظّه {يضرب} ويقع عليه الاختيار. كانت غالبية المحطات الأهلية آنذاك يسيطر عليها الأجانب واليهود، وكان من بينها: {فيولا}، {سابو}، {شقال}،والامير فاروق وعلى رغم محدودية جمهورها، تقدم إسماعيل إلى {فيولا} وقدّم مونولوجات عدة، وعندما طلب من أصحابها أجراً، اندهشوا لذلك الطلب: - فلوس... فلوس إيه يا حبيبي.- تمن ما غنيت المنولوغ؟ - انت مش فاهم ولا إيه يا حبيبي... هو مين اللي مفروض يدي التاني فلوس؟ - انتم طبعا... مش غنيت عندكم؟ - حبيبي أحنا بنعملك شهرة وبروبغندا كبير، مفروض تدفع لنا عليها فلوس. وفي محطة {إلياس شقال} جاءه الرد نفسه، ولكن بطريقة أخرى: - أجر إيه؟! انت مقدمتش غير نفس المونولوغات اللي سبق إذاعتها، إيه الجديد في كده، لازم جديد علشان يبقى فيه فلوس. وعى إسماعيل الدرس، فهو لا بدّ من أن يقدم جديداً في كل مرة حتى يصبح له {سعر}. مضت به الأيام، خطوة أو أكثر إلى الأمام. ويبدو أن حاله استقرت على تلك القروش البسيطة التي كان يتقاضاها من صديقه الملحن، ولكنه استقرار غير مضمون، متأرجح وفق ما يقدمه له سوق العمل من فرص.- {ليكن في علم الجمهور أنه لن يسمح ابتداءً من 29 مايو 1934 ببقاء التراكيب الكهربائية اللاسلكية التي بالرغم من مخالفتها أحكام الأمر العالي الصادر في 10 مايو 1926 تركت حتى الآن تسامحاً ويجب فك التراكيب قبل ذلك التاريخ وإلا طبقت الجزاءات المنصوص عليها في ذلك القانون}. كان هذا بمثابة الإنذار الأخير الذي وجهته الحكومة المصرية إلى الإذاعات الأهلية المصرية التي عرفت طريقها إلى آذان المصريين في العشرينيات من القرن الماضي، وعلى رغم اختلاف الروايات حول قصة أول بث إذاعي فإن هذه الإذاعات انتشرت بسرعة كبيرة واستغلها أصحاب المحال التجارية لترويج بضائعهم، وتجار المخدرات لبث الشفرات في ما بينهم وبين أفراد العصابة، كذلك استغلّها البعض في بث رسائل الغزل والغرام والخيانات الزوجية، وكانت وسيلة للمنافسة بين المحال التجارية وبين المطربين، فاتسمت غالبية مضمونها بالسوقية والابتذال والخروج على الذوق العام، ولم يكن بغريب على الأسماع آنذاك أن يخرج شخص بصوت عالٍ ينادي: - {ألو ألو ألحق يا أخينا أنت وهو في قنبلة انفجرت في الموسكي}. ثم يأتي مرة ثانية - {القنبلة التي انفجرت الآن هي الأسعار المذهلة التي تبيع بها محال الضبع للعب الأطفال}. استمرت الإذاعات الأهلية عشر سنوات إلى أن جاء القرار بتوقّفها وإنشاء إذاعة مصرية حكومية بعد أن زادت حدّة السخرية بين تلك الإذاعات إلى درجة غير معقولة، وآلت إلى شركة {ماركوني} البريطانية مهمة إدخال الإذاعة المركزية التي تغطي جميع أنحاء البلاد وتولت مسؤولية تشغيل محطات الإذاعة لمدة عشر سنوات وفق لعقد مبرم بينها وبين الحكومة المصرية. وفي مساء الخميس 31 مايو (أيار) 1934 استمع المصريون إلى صوت أحمد سالم، أول مذيع في الإذاعة المصرية يقول: - ألو ألو هنا الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية. كانت البداية بتلاوة قرآنية بصوت القارئ الشيخ محمد رفعت ليكون أول من تلا القرآن الكريم عبر ميكروفون الإذاعة المصرية، ليعود مجدداً صوت المذيع الشاب أحمد سالم معلناً عن أول فاصل غنائي - هنا القاهرة... سيداتي وسادتي أولى سهرات الإذاعة المصرية في أول يوم من عمرها تحييها الآنسة أم كلثوم. وتخللت ساعات الإرسال التي امتدت من السادسة مساءً وحتى الحادية عشرة فواصل موسيقية وزجلية وقصيدة شعر ومونولوج فكاهي ثم كان الختام بفاصل موسيقي لمحمد أفندي عبد الوهاب مع التخت الخاص به. منذ اليوم الأول حرصت الإذاعة المصرية على استقطاب نجوم ذوي شهرة ومكانة رفيعة بين الجمهور لتنال بذلك ثقة المستمعين واحترامهم، وتقدّم إسماعيل يس الى اللجنه - انت مطرب؟! - أيوه مش باين عليا؟- لا... باين قول هتسمعنا إيه؟ صمت إسماعيل للحظة راوده فيها حنينه إلى تقديم نفسه كمطرب عاطفي ينافس المطرب محمد عبد الوهاب، لكنه تراجع فوراً، خشية أن يُرفض كما حدث سابقاً، فكان لا بد من أن يقتل هذا الإحساس بداخله إلى الأبد، بدلاً من يضيّع فرصة العمر.- إيه يا ابني... هتسمعنا إيه؟ هقول مونولوج.- مونولوجيست يعني معقول برضه قول. نجح إسماعيل يس في الامتحان كمنولوجيست في الإذاعة المصرية، وتم الاتفاق معه على أن يذيع أربع حفلات شهرياً أو أربعة مونولوجات، على أن يتقاضى في كل مرة أربعة جنيهات أي ستة عشر جنيهاً شهرياً. لم تسع الدنيا كلها فرحة إسماعيل يس بهذا الخبر، وفوراً استأجر حجرة في بيت متواضع بحي السيدة زينب واشترى بدلة جديدة وقميصاً وحذاء لكنه لم يشتر أي أثاث، فاضطر الى النوم على الأرض وقد سبّب له ذلك على مدى أيام متاعب صحية، لذلك قرر شراء الصحف القديمة ليفرشها على الأرض، وحوّل سترته القديمة إلى مخدة واشترى {لمبة جاز} صغيرة لتنير له الغرفة ليلاً، وعلى رغم قسوة هذه الحياة، إلا أن اسماعيل كان يبدو في غاية السعادة، وللمرة الأولى يشعر بأن له بيتاً يأوي إليه ولا يُطرد منه. بدأ اسم إسماعيل يس يتردد على ألسنة الناس، من خلال الإذاعة الحكومية التي أصبح بثّها يغطي غالبية محافظات بر مصر، أو على الأقل يضمن إسماعيل أنها تغطي القاهرة كلها، ومن خلال هذا النجاح الذي حققه في الإذاعة، نجح في الالتحاق بإحدى الصالات الكبرى في شارع عماد الدين، للعمل كمونولوجيست، ثم انتقل إلى صالة أكبر وأكثر شهرة وبأجر أعلى. لم يكن إسماعيل يس يستطيع أن يدفع بشكل دائم ومتلاحق أجور من يكتبون له المونولوغات ويلحّنونها، فهداه ذكاؤه إلى طريقة كانت آنذاك جديدة ومبتكرة، ولاقت نجاحاً كبيراً وشهرة واسعة بين الجمهور، وإن كانت أغضبت بعض كبار المطربين، وهي أن يكون مطرباً عاطفياً على طريقته، إذ قلب كلمات أغاني كبار المطربين العاطفية وغناها بطريقته الخاصة، التي ما إن يسمعها الجمهور حتى يضج بالصراخ ضاحكاً، مثل أغنية محمد عبد الوهاب التي تقول: {سهرت منه الليالي... مال الغرام ومالي} فحوّلها اسماعيل إلى {مال السباق ومالي}. في عام 1935 أصبح لاسماعيل مونولوجاته الخاصة التي قدّمها في الإذاعة، خصوصاً في الدورة الإذاعية خلال أشهر مارس وأبريل ومايو، ومنها: {يا اخواتي مراتي سبور}، كلمات محمد عبد المنعم وألحان حسن أبو زيد، {الإيجار، {النونو عاوز يتجوز}، {أول يوم في الشهر} كلمات عبد المنعم وألحان رضا إبراهيم، {لبخت} و}العجايز}، كلمات مصطفى طوربيد وألحان حمدي سالم، {ستات اليوم}، كلمات مصطفى طربيد وألحان رضا إبراهيم، {الحشاشين} كلمات عبد الغني الشيخ وألحان رضا إبراهيم، {عربجي} كلمات وألحان محمد مصلح الحريري، وكما يبدو من أسمائها فإن تلك المونولوجات كانت تعالج مشاكل المواطن الحياتية آنذاك. تحسّنت أحوال إسماعيل عن السابق، وأصبح راتبه في الإذاعة 16 جنيهاً شهرياً، وبدأت تزداد شهرته بين الناس، حتى جاء اليوم الذي قرأ فيه إعلاناً في إحدى المجلات الأسبوعية عن افتتاح مكتب فني مهمته تقديم المواهب إلى الملاهي المصرية واللبنانية والسورية والعراقية، يديره شخص مصري اسمه عبد العزيز محجوب، وشريكه الخواجة {فيناسيون} الذي كان يعمل مدرباً للرقص في صالة بديعة مصابني، فتقدم إسماعيل إلى المكتب يطلب عملاً:- اسمك إيه؟- إسماعيل يس.- أنا مسمعتش عن الاسم ده قبل كده. - طب أعمل إيه أكيد سمعك تقيل.- لا خفيف... انت هتنكت؟! - بنكت وأقول مونولوغ وأغني وأرقص.- طب بس بس كفاية... أهو الأستاذ عبد العزيز صاحب الشركة وصل اتفضل بقى يا خفيف ورينا. طلب عبد العزيز من اسماعيل أن يقدم شيئاً أمامه، وحين غنى وقدّم نموذجاً من مونولوجاته أُعجب به، وقدّمه إلى ملهى يملكه ممثل قديم اسمه يوسف عز الدين، وما كاد الأخير يسمع اسماعيل حتى قال له فوراً {أنا مستعد لأن أتعاقد معك بخمسة عشر قرشاً يومياً}، فعارض عبد العزيز وطلب أكثر فاسماعيل يغني المونولوغ ويقدّم اسكتشات ضاحكة، ويقول النكت، لذا يستحق ليس أقل من خمسة وعشرين قرشاً يوماً، ولكن إسماعيل خاف أن {تطير منه الشغلانة} فتدخل مقاطعاً عبد العزيز ووافق على أن يعمل بهذا المبلغ. كان إسماعيل قد انتقل إلى العمل عند المحامي، وسرعان ما أحبه الأخير وأعجب بسرعة بديهته وتصرفاته وحركاته، وخفة دمه، فقد قرر أن يتخذ منه رفيقاً وسكرتيراً وكاتماً لأسراره وخادماً، فهو أعزب، ويحتاج إلى من يؤنس وحدته ويرافقه في جلساته، في البيت وخارجه، أصبح إسماعيل يلازمه كظله في كل مكان يذهب إليه، وبدأ يعرف طريقه إلى السهرات في الصالات والكازينوهات. بدأت تظهر على إسماعيل اهتمامات أخرى، فكان يستغل وجود الصحف والمجلات في مكتب المحامي، ويحرص يومياً على قراءة كل ما تصل إليه يداه من المجلات الفنية وغير الفنية التي كانت تصدر آنذاك، فأخذ يطلع على آخر أخبار الفن والفنانين في مصر، خصوصاً أخبار المونولوغ، وبدأ يسمع عن الفرق المسرحية المنتشرة، مثل فرقة رمسيس ليوسف وهبي، وعزيز عيد ونجيب الريحاني وعلي الكسار، ومن بين ما عرفه إسماعيل من خلال الصحف وشدّ انتباهه أن الزجال {أبو بثينة} هو الذي يؤلف مونولوغات سيد سليمان، ففكر في كيفية الوصول إليه، وإذا وصل إليه هل يستطيع أن يقنعه بأن يعطيه مونولوغاً يغنيه؟ ومن يكون إسماعيل ياسين ليكتب له {أبو بثينة'؟! أسئلة كثيرة دارت في رأسه حول {أبو بثينة} الزجال، لكن إجاباتها المحبطة لم تستطع أن تثنيه عما انتوى أن يفعله. كانت حقبة الثلاثينات في مصر تشهد أزمة اقتصادية طاحنة، جاء تأثيرهاً واضحاً على كل شيء بما فيها الفنون، وفي الوقت نفسه شهدت الحقبة أيضاً تطورات سياسية وثقافية وفنية كثيرة، إذ كانت الحكومة المصرية قبلها قد بدأت في إرسال البعثات إلى الخارج وعاد هؤلاء الدارسون، ليقدموا كل ما درسوه على طبق من ذهب إلى المجتمع المصري، ما شكّل حركة فكرية وثقافية كبيرة، فضلاً عن تنمية الوعي السياسي. آنذاك كان الفنان الكبير نجيب الريحاني يواصل نجاحاته المسرحية، وتقديمه الملحنين الموهوبين والجدد، فبعد رحيل أسطورة الموسيقى الشيخ سيد درويش، وتقديمه الشيخ زكريا أحمد تعاون مع محمد القصبجي في تقديم رواية {نجمة الصبح} من بطولة المطربة هدى، ثم قدّم أول محاولة للاقتباس من رواية {اتبحبح} التي اقتبسها عن الرواية الفرنسية، وفي عام 1931 شكلت الحكومة المصرية لجنة للإشراف على المسرح كان ضمن أعضائها الشيخ مصطفى عبد الرازق و د.طه حسين الذي كان يشيد كثيراً بالريحاني وفرقته، فقد كان الريحاني بارعاً في اجتذاب الجمهور عبر تقديم أعمال فنية يجد الناس أنفسهم فيها، ويحرص على تناول شخصية الإنسان المطحون المكافح في سبيل لقمة العيش، وقد بدأ ترسيخ هذا الاتجاه مع أعماله المسرحية مثل {الجنيه المصري} وغيرها. غير أن التمثيل لم يكن أحد أهداف ياسين، لكنه بدأ يسمع عن نجوم هذا المجتمع الجديد عليه، وكان يعرف أخبارهم خلال وجوده في كازينو {بديعة مصابني} أكثر مما يعرفها من خلال الصحف، من هنا بدأ يغري مخدومه كي يسهر يومياً في كازينو {بديعة} كي لا تفوته أخبار هؤلاء النجوم، ويمتع نفسه بالاستماع إلى مونولوغستات كازينو بديعة الذي كان يضمّ أشهر من غنى المونولوج آنذاك، بعد أن وقع ياسين في غرام المونولوج. وفي كازينو بديعة شاهد ياسين لأول مرة، تلك الأسماء التي طالما سمع عنها وعن أخبارها، شاهد ملك المونولوغ وأكثرهم شهرة سيد سليمان وازداد إعجابه به، وحفظ مونولوجاته، وأبرزها {بُريه من الستات} و{هنا مقص}. كذلك شاهد المونولوجست حسين المليجي، وهو يلقي مونولوجه {سوسو.. حنتوسو}، ومع مرور الأيام وجد ياسين المونولوج يحتل مكانة متميزة داخل نفسه، فيما بدأت فيه صورة المطرب محمد عبد الوهاب تتوارى لتحل مكانها صورة مونولوغات سيد سليمان وحسين المليجي. تردد ياسين على كازينو بديعة، وشاهد الشعبية التي يحتلها فنانو هذا اللون، وما يلاقونه من ترحيب كبير من عشاق هذا الفن، تمنى أن يكون مونولوغيستاً مثل سيد سليمان، بل بدأ فوراً يقلده ويلقي مونولوجاته في السهرات الخاصة التي يقيمها ولي نعمته خليل حمدي، التي خرج منها بفائدة أخرى جديدة، فمن خلالها تعرف إلى حمدي سالم الموسيقي والملحن الهاوي وتصادقا بعد أن جمعت بينهما هواية حب الغناء والموسيقى. على رغم أن الحب الجديد (المونولوج) بدأ يسيطر على عقل اسماعيل يس وقلبه، إلا أنه كما يبدو لم ينس حبه القديم، وهو أن يصبح مطرباً عاطفياً مثل مطربه المفضل محمد عبد الوهاب، فبعد أن توطدت علاقة الصداقة بينه والموسيقي حمدي سالم، بدأ الأخير يدعوه إلى حفلات بعض الأصدقاء والمعارف، وكانت المرة الأولى التي قرر فيها أن يدعوه إلى إحياء حفلة زفاف أحد أصدقائه:- إسماعيل عندي لك خبر حلو.- اوعى تقولي إنك قررت تسلفني بدلتك الجديدة. لا يا أخي... مفيش فايدة فيك أي جد تحوله لهزار. يا سيدي حقك عليا... بطلت أهزر... خير إن شاء الله.- أنت هتغني في فرح.- شوفت بقى مين اللي بيهزر دلوقت. - أنا بتكلم جد. يوم الخميس فرح ماجد بن شوكت بك، وأنا رشحتك تبقى مطرب الفرح. - اعدلوني ع القبلة. أنا مش مصدق نفسي. الكلام ده بجد. - وجد الجد... جهز نفسك يا بطل، عايزك من دلوقت لحد يوم الخميس تشرب كل الزنجبيل اللي في البلد علشان صوتك يجلجل.- هو هيجلجل وبس... ده أنا يا أستاذ هخليهم يصرخوا من حلاوة الصوت.- ولك ياعم زي ما قلت، هسلفك بدلة جديدة علشان تبقى آخر شياكة. قفز الحلم النائم في قلب ياسين إلى خارج صدره، فقد جاءت الفرصة التي طال انتظارها، ليغني فيها أمام جمهور حقيقي لأول مرة في القاهرة، ليثبت لهذا المجتمع قدراته كمطرب، بعد أن باءت محاولاته السابقة كلها بالفشل في أن يشارك في أي حفلة مع إحدى الفرق المحترفة، سواء في شارع محمد علي، أو إحدى صالات شارع عماد الدين. وجاء يوم الفرح، ونسي ياسين المناسبة التي يغني فيها، وأن يختار أغنية تتلاءم وتلك المناسبة السعيدة، أو أغنية تدخل البهجة والسرور على العروسين والحضور من المدعوين والمدعوات، نسي ذلك كله ولم يتذكر سوى حلمه في أن يكون مطرباً، وأنه يستطيع أن ينافس مطربه المفضل محمد عبد الوهاب، وأن يكون نداً له. ودفعت العناية الإلهية إلى حنجرته أحد مونولوجات سيد سليمان، وزاد من اتقانه أنه قلّد فيه طريقة سيد سليمان الأشهر في فن المونولوج آنذاك، ولا شك في أن المدعوين يعرفونه ويحفظون طريقته، واستطاع برباطة جأشه، وخفة ظله وطريقته في الإلقاء والتقليد أن يجبرهم على متابعته... ليس هذا فحسب، بل جعلهم ينفجرون صراخاً من الضحك، ودفعهم إلى نسيان هفوته السابقة بأغنية عبد الوهاب، ولولا ذلك لحدث ما لا تحمده عقباه، وبدلاً من أن تكون البداية تكون النهاية. وأراد القدر في هذه الليلة أن يصحح اسماعيل يس مساره الذي عاش طويلاً يخطط له ويحلم به، وأن يجعله يكتشف حقيقة نفسه مرتين: الأولى والأهم كانت من خلال رد فعل الجمهور على الأغنيتين وأدائه لكل منهما، والثانية كانت من خلال نصيحة وجهها إليه الزجال المعروف محمد عبد المنعم المعروف باسم {أبو بثينة} له، الذي تصادف أن كان مدعواً مع إلى الحفلة:- أنت قلت اسمك إيه؟!- إسماعيل يس. - اسمع يا إسماعيل.. أنا راجل بقالي سنين في الكار ده ونصيحتي لك يا بني إنك تركز في المونولوج وسيب الأغاني العاطفية لأهلها.- تقصد إني مش كفء للأغاني دي. - الحكاية مش بالكفاءة، لكن فيه حاجات كتير بتحكم المسألة، وربنا خلق كل واحد، وخلق له سكته في الدنيا، وأنا بخبرتي شايف إن المونولوج هو سكتك. كانت نصيحة {أبو بثينة} لإسماعيل بالإبتعاد عن الغناء بمثابة الباب الذي أغلق في وجهه بعد أن كاد أن يفتح له، وزاد من حزنه تأكيده له أن شكله وتقاطيع وجهه، قد لا تجعله ينجح كمطرب، لكنه بسرعة بديهته وخفة دمه، وحسن حركاته وطريقة إلقائه قد يصبح مونولوجيستاً كبيراً. سمع النصيحة، التي سببت له حزناً كبيراً، وما إن خلا إلى نفسه حتى أعاد التفكير فيها مرات ومرات، وشيئاً فشيئاً اقتنع بها، خصوصاً عندما كان يطيل الوقوف أمام المرآة:- بالذمة ده منظر!يبتعد عن المرآة ويعود وينظر إليها- يانهار أسود.. كل ده بق؟ ودى كانت حكاية اسماعيل يس مع المسارح والاذاعه – توفى الفنان 24 مايو 1972 رحمه الله.