يبدو أن سوريا هي مجال الرد الوحيد المتاح أمام الإدارة الأمريكية هروباً من المواجهة مع روسيا في أوكرانيا . لم يستطع الأمريكيون والأوروبيون توجيه لطمة للروس تساوي وتوازن ما فعلوه في شبه جزيرة القرم التي تحولت فعلياً إلى جزء من روسيا، أو بالأحرى، عادت لتكون جزءاً من روسيا بعد تصويت كل من مجلس الاتحاد (الغرفة العليا في البرلمان الروسي) ومجلس النواب (الدوما)، وتوقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على قرار ضم القرم وسيفاستوبول إلى الاتحاد الروسي . ففي الوقت الذي استبعد فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما تدخلاً عسكرياً أمريكياً في أوكرانيا، مؤكداً استخدام الدبلوماسية في المواجهة بين الولاياتالمتحدةوروسيا بخصوص منطقة القرم، وقوله "لن نزج بأنفسنا إلى نزهة عسكرية في أوكرانيا، ولسنا في حاجة إلى إثارة حرب فعلية مع روسيا"، اختارت الإدارة الأمريكية أن تكون تصفية الحسابات مع روسيا في سوريا حيث تدار الحرب بالوكالة بين واشنطنوموسكو عبر حلفاء محليين، كي تبقى المواجهة ويبقى الصراع بين الولاياتالمتحدةوروسيا صراعاً غير مباشر عكس الصراع في أوكرانيا الذي كان ينذر بمواجهة عسكرية بين البلدين، ولكنها مواجهة مباشرة ليس في مقدور أحد تقدير حساباتها وحسمها، لكن ما يعرفه الجميع أنها كانت وستبقى "الحرب المرفوضة" منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ودخول السلاح النووي سلاحاً محتملاً في أي مواجهة عسكرية مباشرة أمريكية روسية . اختار الأمريكيون التصعيد مع روسيا من البوابة السورية، ومن المدخل الدبلوماسي ربما كمبادرة جس نبض لرد الفعل الروسي قبل إجراء مراجعة عن الالتزام الأمريكي بالحل السياسي من دون الحل العسكري للأزمة السورية، نظراً لأن الحل العسكري له حسابات أخرى إيران ليست بعيدة عنها، وكذلك الكيان الصهيوني . فمن خلال المدخل الدبلوماسي اتخذت واشنطن قراراً يقضي بإغلاق السفارة السورية في واشنطن، وأبلغت سوريا رسمياً (18-3-2014) وقف العمل بسفارتها في واشنطن، وأمرت الدبلوماسيين العاملين فيها بمغادرة البلاد إذا لم يكونوا مواطنين أمريكيين، كما أبلغت واشنطندمشق أنها لن تكون قادرة، بعد الآن، على تشغيل قنصليتيها في "روى" بولاية ميتشغان، و"هيوستن" بولاية تكساس، مشيرة إلى عدم شرعية حكم نظام الرئيس بشار الأسد . القرار الأمريكي برره جون كيري وزير الخارجية بأنه اتخذ بسبب "عدم شرعية نظام الأسد"، وقال "إن النظام السوري يهاجم المدنيين عشوائياً، ولذلك فقد شعرنا بأن فكرة وجود السفارة مع تمثيل لا نأخذه على محمل الجد هو إهانة، ولذلك أغلقناها" . هذه التفسيرات غير مقنعة لأن الولاياتالمتحدة في مواجهة عنيفة مع نظام الأسد منذ تفجر الانتفاضة الشعبية المطالبة بالتغيير في سوريا قبل ثلاث سنوات، ولجأت واشنطن إلى استخدام أدوات عسكرية وأخرى غير عسكرية لإسقاط نظام الأسد، لكنها لم تلجأ إلى اتخاذ قرار بإغلاق السفارة السورية في واشنطن، وكذلك إغلاق القنصليتين في ولايتي ميتشغان وتكساس، وهي خطوة سوف تضر بنحو مليون سوري يقيمون في الولاياتالمتحدة، حسب قول مسؤول سوري رأى أن القرار الأمريكي ليس إلا مقدمة لخطوات تصعيدية أمريكية أخرى . هناك من فسر القرار الأمريكي بأن محاولة استباقية للتضييق على الانتخابات الرئاسية السورية المحتملة في يونيو/ حزيران من هذا العام عبر منع القنصليتين، وكذلك السفارة السورية في واشنطن، من فتح أبواب التصويت للسوريين المقيمين بالولاياتالمتحدة في هذه الانتخابات، لكن موسكو فهمت القرار بشكل آخر بعيداً عما جاء في بيان وزارة الخارجية السورية التي ركزت على التنديد بالقرار فقط ووصفه بأنه "إجراء تعسفي" و"بدعة سياسية وقانونية" و"نسف للمبدأ القانوني الأساسي بالعمل القنصلي"، فقد رأت روسيا أن الولاياتالمتحدة تخلت عن الدور "الراعي" لمفاوضات السلام في سوريا عبر إغلاقها السفارة السورية، وقالت وزارة الخارجية الروسية "عبر اتخاذ خطوة أحادية كهذه، فإن شركاءنا الأمريكيين يحرمون أنفسهم عملياً من دور الراعي لعملية التسوية السياسية في سوريا، وهم أصبحوا، طوعاً أو كرهاً، لعبة في يد المعارضة السورية الراديكالية التي تضم في صفوفها إرهابيين يرتبطون بتنظيم القاعدة" . لم يكتف بيان الخارجية الروسية بذلك، لكنه أشار إلى أن موسكو نظرت إلى هذه الخطوة ب "قلق وخيبة أمل"، ورأت أنها تعارض الاتفاق الذي توصلت إليه الدول الكبرى في مؤتمر جنيف في يونيو/ حزيران 2012 مؤتمر "جنيف - 1" حول مرحلة انتقالية "لا تحدد مستقبل الأسد" . كما اتهم البيان الروسي واشنطن بإعطاء الأولوية لتغيير النظام، وأن "هدف تغيير النظام في دمشق يتقدم على مهمة نزع الأسلحة الكيميائية في سوريا، ومساعدة ملايين السوريين الذين عانوا الصراع المسلح" . روسيا بهذه المكاشفة والصراحة المتعمدة في الرد على قرار إغلاق مقار البعثة الدبلوماسية السورية في الولاياتالمتحدة، أدركت أنها ربما تكون المعنية بصفة أساسية من هذه الخطوة، وأن الأمريكيين يصعّدون في سوريا لعجزهم عن التصعيد في القرم وأوكرانيا مع روسيا، وبالتالي فإن السؤال عن مدى وإمكانية استمرار التنسيق الروسي - الأمريكي بخصوص الحل السياسي للأزمة السورية؟ وهل يمكن فعلاً أن تتراجع واشنطن عن التزامها بالحل السياسي وتعطي الأولوية للحل العسكري، عبر تكثيف الدعم العسكري للمعارضة، ما يعني إمكانية حدوث انقلاب في مجريات الأزمة السورية؟ التطورات المتلاحقة في مجرى الأزمة السورية ابتداء من قرار القمة العربية بالكويت، دعوة رئيس الائتلاف السوري للمعارضة أحمد الجربا إلى التحدث أمام القمة، مروراً بالمعارك التي تخوضها في مناطق متفرقة بسوريا، خاصة معركة الساحل والأسلحة المتطورة التي استخدمت فيها من جانب قوات المعارضة، وبالذات في معركة "كسب"، وأخيراً إسقاط تركيا لطائرة سورية كانت تحلق داخل الأراضي السورية فوق المنطقة نفسها، كلها تطورات تحمل معاني التصعيد . هل هذا التصعيد يمكن عدّه مقدمة لإعادة ترتيب أوضاع المعارضة لاحتواء نجاحات النظام العسكري في الأشهر الأخيرة والتي شجعت الرئيس الأسد على البدء في إجراءات ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة . شهادة روبرت فورد السفير الأمريكي السابق في سوريا بحق المعارضة تؤكد أن المعارضة في مأزق كبير في علاقاتها الداخلية، وجاءت الخلافات السعودية القطرية لتفاقم من مأزق المعارضة في ظل الاتهامات السعودية لقطر بدعم منظمات إرهابية تكفيرية منها منظمات تقاتل داخل سوريا، لتؤكد عمق هذا المأزق الذي مع بقائه يصعب الحديث عن حسم عسكري للأزمة السورية، وهذه أمور لا يغفل المسؤولون الأمريكيون عن إدراكها . إن الأزمة في سوريا ستبقى رغم كل تصعيد دون حسم خارجي، وإن الحسم سيبقى داخلياً . نقلا عن صحيفة " الخليج" الاماراتية