الحرية في الإسلام لا تعني بتاتا الحرية المطلقة أو شبه المطلقة التي تنادي بها الشعارات اللادينية. فالإسلام دين واقعي شمولي النظرة. لهذا فإن الحرية في الإسلام قضية نسبية، وذلك لأن الإنسان مقيد بشبكة عظيمة محكمة من الأنظمة التلقائية (الأتوماتيكية) التي تسيِّر هذا الكون بمشيئة الله. فالله سبحانه وتعالى أوجد الكون ويخلق ما فيه ويسيره بأمره: كن، فيكون (الأمر المباشر) وبالسنن الكونية أو النظم التلقائية التي خلقها. ولا يقع شيء في هذا الكون إلا بإذنه وبمشيئته، فهو القاهر فوق مخلوقاته. ولا يعني أن الله حكم على الناس بحياة محددة. وسيأتي الحديث عنه لاحقا. وحرية الإنسان أيضا مقيدة بالمسؤولية تجاه خالقه الذي جعله خليفة في الأرض وسخر له المخلوقات، التي لا تُعد ولا تحصى. ويلاحظ أن الإنسان لا يمكنه الخلاص من قيد السنن الكونية في الأحوال العادية، ولكن يستطيع أن يتجاهل التعاليم الربانية، وإن كان ذلك سيكون على حساب مصيره في الحياة الأبدية بصورة مؤكدة. فالحرية لا تأتي بالمجان ولا يمكن المحافظة عليها بالمجان. ويضاف إلى ذلك أن حرية الإنسان مقيدة بتقاليد المجموعات التي ينتمي إليها، سواء أكانت الأسرة أم المؤسسة التي يعمل فيها... وما ينطبق على الفرد ينطبق على الأقلية فهي مقيدة بما تقرره الأغلبية في الشؤون العامة. وما ينطبق على الجماعات في الدولة الواحدة ينطبق على الدولة في المجتمع الدولي. ومن القيود أن الإنسان إذا التزم طواعية بأمر أو بالانتماء إلى جماعة من الناس، ليحصل بموجبها على ميزات العضوية، فعليه أن يفي بالتزامه إلى أن تنتهي المدة المحددة للاتفاقية أو إلى أن يتنازل الطرف الثاني، وإلا استحق العقوبة. ومع هذه القيود فإن الإنسان لديه مجال واسع للحرية في كثير من الأمور. فبالإضافة إلى الحرية في الاختيار بين الصواب والخطأ بمعيار الدنيا المؤقتة أو بمعيار الحياة الأبدية، فإنه يملك أنواعا من الحريات تندرج كلها تحت حرية التنوع والتعدد المقبول وغير المقبول. فالتعددية والتنوع من الصفات الفطرية اللازمة لسعادة المجتمع البشري. وبدونها يضعف التنافس الذي يشحذ الهمم لاستغلال الموارد الطبيعية من أجل توفير الرفاهية للإنسان فضلا عن احتياجاته الضرورية. والتنوع ضروري ليتعارف الناس وليتعاونوا. يقول تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير). (سورة الحجرات: 13). ماذا عن حرية التعبير للمواطن؟ يظن كثير من المسلمين أن الأنظمة الناجحة في بيئاتها ومنها البيئات الغربية، هي وحدها التي تحقق السعادة للإنسان، وذلك لأنها تمنح الفرد حرية التعبير عن آرائه ومشاعره. ولو سألنا هؤلاء المسلمين أتحبون –حقا- أن يكون للمسلمين تلك الحرية المنتشرة في هذه البيئات وإن كانت تؤدي إلى ما أدت إليه وعلى رأسها التضحية بالحياة الآخرة الأبدية؟ ستكون الإجابة طبعا: لا. (صيني، حرية التعبير) أما إذا كان المقصود بحرية التعبير هي حرية الأمر بالمعروف (المضمون والأسلوب) والنهي عن المنكر، فإن المسلمين لا يحتاجون إلى أن يستوردوا حلولا أجنبية عن بيئتهم. وهم الأسبق في هذا المجال، ولاسيما بالنسبة للنصح لأصحاب السلطة. (صيني، الأمن الفكر والأنظمة) وكل ما يحتاجونه هو القيام بهذا الواجب الديني. فحرية التعبير بهذا المعنى، ليست مجرد حق للمسلم يمكنه التنازل عنه، بل هو واجب إسلامي تمليه عليه عقيدته. بيد أن هذا الواجب ينبغي أن يؤدى حسب الضوابط التي حددها الإسلام. ومن أبرز هذه الضوابط ألاّ يخالف مضمون الكتاب والسنة وفهم جمهور علماء المسلمين أو منهج الاستنباط عندهم، وأن تُؤدى بالطريقة التي تحقق الهدف من هذه الآلية الضرورية لصلاح أي مجتمع إنساني ولصيانته. ومن أبرز معالم هذه الطريقة أن تكون تنبيها بالمعروف وبالحسنى، وألاّ يتوانى القادرون في المجتمع عن القيام بهذا الواجب ولو تعرضوا للأذى. ومن واجب المجتمع أن يشجع عليه بالتدريب اللازم وبتوفير البيئة الضرورية لازدهاره. ومن متطلبات هذه البيئة عدم حصره كله في فئة محددة باعتبارها معصومة، وأما غيرهم فهم الذين يحتاجون إلى التوجيه، أو باعتبارها المسؤولة الوحيدة، أما الآخرون فهم غير مسؤولين. فبالنسبة للأسرة مثلا، ليس هناك ما يسهم في حماية أفرادها من الانحراف في الخفاء دون علم الأب، مثل السماح لهم بتقديم المشورة لمصلحة الأسرة كلها أو بطرح آرائهم ومشاعرهم دون خوف من القمع أو العقوبة. هذا، مع أن بعض الآراء قد تكون غير ناضجة وبعض طرق التعبير قد تكون غير مؤدبة. فهذا أفضل للأسرة ولربها من أن يعيش في عالم وهمي كل الأمور فيه على ما يرام، وهي في الحقيقة تغلي في الظلام. وهو أفضل لأن السلوك المكشوف يمكن التعرف على خلله في وقت مبكر فيُسارع إلى إصلاحه قبل استفحاله. وأما ما يجري في الظلام فهو أشبه بالسرطان الذي ينتشر دون رقابة ولا استعدادات مناسبة لمقاومته. وبعبارة أخرى، فإنه خير للأسرة أن تحتمل الشر القليل الظاهر والذي قد يتبخر بمجرد التعبير عنه، بدلا من مواجهة الشر الخطير الخفي الذي لا تحمد عقباه. فليس هناك خير مجاني بدون مقابل. وهذا المثال ينطبق على أي مجموعة بشرية، سواء أكانت صغيرة أو كبيرة. ** منشور بصحيفة "الوطن" السعودية 29 أغسطس 2009