* بقلم: الروائي الكويتي طالب الرفاعي ثمة كتب لافتة حين يقرأها أي شخص، فهي تُشكل جزءاً أساسياً من عالمه الفكري، وتشكل أيضاً قناعة حياتية تبقى معه الى حين بروز قناعة جديدة مخالفة أو موازية، تكون قادرة على زحزحتها والحل محلها. ومنذ قرأت كتاب «الاستشراق» للمفكر إدوارد سعيد، ولم أزل مقتنعاً بأن الغرب، يطيب له أن ينظر إلينا كما جاء ذكرنا في كتب الاستشراق، وبما يعزز الشعور الجمعي الغربي بدونية الإنسان الشرقي وجهله وهمجيته، وعدم قدرته على إدارة شؤونه. هذا الشعور يمنح الإنسان الغربي شعوراً بالفوقية، حتى لو كان ذلك مجافياً للحقيقة والواقع. لذا فإن كتب التاريخ العربي، تلقى في أفضل أحوالها، صدى لدى القارئ الغربي الدارس، وتلاقي إهمالاً لدى جمهور القراءة العادي، لكونها تأتي مخالفة لقناعاته. فشهادة المؤرخ العربي مطعون بها، وهي لا ترقى إلى الموضوعية والصدق، كما أن المؤرخين الغربيين المنحازين إلى قضايا الإنسان العربي، تتداول كتبهم في الغرب ضمن دوائر ضيقة، لا تُشكل تياراً في أي مجتمع من المجتمعات الغربية. وفي ظل عولمة ثقافية لا تقف حدود في وجهها، تُعدّ كتب الأدب والفن، على اختلاف أجناسها شعراً ورواية وقصة قصيرة ومسرحاً ولوحة تشكيلية وقطعة موسيقية، وسيطاً ممتازاً لتمرير أو توصيل قضايا الشعوب العربية الى الغرب، بالتالي المساهمة، ولو في شكل صغير، في تشكيل وعي غربي جديد مختلف عما درجت الشعوب الغربية عليه. الأدب والفن وحدهما يمتلكان سحرهما الخاص، الذي يحمل رسالتهما غير المباشرة إلى القارئ، مبطنة بشحنة عاطفية وتعاطف، قلما تصله حقائق كتب التاريخ. ومن هنا، فإن الاهتمام والإقبال على الرواية عالمياً، وما وصل منه إلى الرواية العربية، يشكل، في جزءٍ منه، جسراً يمكن الروائي العربي من خلاله أن يقول حقيقة ما عجزت عنه حروب ومؤتمرات ولقاءات وكتب، حول قضايا الشعوب العربية، وربما تأتي القضية الفلسطينية في المقدّم. لعل رواية «زمن الخيول البيضاء» للكاتب والشاعر إبراهيم نصرالله، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تقدم صيغة فنية آسرة لمعاناة الشعب الفلسطيني وخفايا قضيته، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصولاً إلى عام النكبة، إن صح أن هناك عاماً محدداً يجسد نكبات الشعب الفلسطيني. «زمن الخيول البيضاء» رواية أجيال، تُعيد القارئ إلى زمن الروايات الملحمية الجميلة. وهي تنطوي على مئات الشخصيات والحوادث، وتدور في محورها حول حكاية قرية «الهادية»، التي تختصر مآسي قرى فلسطين كلها. يدرك قارئ الرواية، منذ الصفحات الأولى حضور الأسطورة، ويدرك جماليتها، ويؤخذ راضياً إلى عوالم من الحياة، فيها من الحقيقة مقدار ما فيها من التخييل. مع ملاحظة ازدياد شحنة الحقيقة في أجزاء الرواية الأخيرة، وذلك من طريق التوثيق. فالكتابة لدى إبراهيم نصر الله في «زمن الخيول البيضاء» هي خلطة فنية متقنة تمزج بين طين الواقع وهوائه وهمس السماء السري وقدريتها. وهو إذ يكتب الواقع فإنه يخلق الفن، وإذا يكتب الفن، فإنه يبعث الحياة في طين الواقع. وهو في كل ذلك قادر، بفنية عالية، على رسم عوالم وشخصيات روائية يصعب نسيانها. استطاعت الرواية أن تستحضر عوالم الشعب الفلسطيني في أفراحه وأتراحه، واستطاعت أن توثق لمئات الأمثال والحوادث والحكايا الفلسطينية، وتمكنت إلى جانب هذا كله من أن تقدم المأساة الفلسطينية عبر أكثر من جيل، وعبر أكثر من تعقيد يحيط بها، سواء من أهلها أو من التدخلات الخارجية، أجنبية كانت أو عربية. وهي في المحصلة رواية تدحض المقولة الإسرائيلية عن أرض بلا شعب، بل هي تصرخ بعلو صوت الحقيقة، بأرض تخص شعباً، وشعب دافع ويدافع عنها، وقد تحمل من التضحيات في سبيل هذا الدفاع ما لا يقدر شعب على تحمله. تعيد رواية «زمن الخيول البيضاء»، في زمن استسهال الكتابة الروائية، بل في زمن روايات الفضائح، القارئ إلى زمن الأعمال الروائية الكبيرة، ولا أعني عدد صفحات العمل، بل أشير إلى اتقان فن اللعبة الروائية، والعلاقة بين الكاتب ولغته ومادته، وأخيراً القدرة الفذة على تسجيل أو توثيق قضايا الأمة في شكل فني يواجه النسيان، ويمس وجدان أي قارئ حيثما كان. ** منشور بصحيفة "الحياة" اللندنية 8 يناير 2009