لحذاءين غيرا التاريخ: ما بين صمتين مريبين يصنع مثقف عراقي معجزة مواطنته فاروق يوسف (الى منتظر الزيدي) بعد أكثر من ستين سنة على نهاية الاحتلال النازي لفرنسا لا تزال قضية موقف المثقفين الفرنسيين من ذلك الاحتلال تثير الاهتمام وتدعو الى المساءلة التاريخية. قرأت قبل فترة تلخيصاً معربا لكتاب صدر حديثا في باريس يتهم مؤلفه الكثير من مبدعي تلك المرحلة العصيبة بالصمت. سارتر كان واحداً منهم. الفيلسوف الفرنسي المشاغب كان قد كتب مقالة مهمة أصبحت عنوانا لأحد كتبه (جمهورية الصمت). جملته الشهيرة (لقد عشنا) يمكن تأويلها بطريقة أخلاقية. لم ينكر الرجل صمته، بل اعتبره نوعا من المقاومة. الرسام ماتيس كان هو الآخر حسب الكتاب صامتا، غير أنه لم يتوقف لحظة واحدة عن ابداع فن مختلف، فن يستدعي الجمال في لحظة قبح تاريخي. فيركور في رائعته (صمت البحر) تغنى بالصمت المقاوم. الرجل الذي اتخذ اسما حركيا بسبب انتمائه الى المقاومة المسلحة لم يناوئ الصمت الخلاق. صمت المثقفين وهم يعملون من أجل صيانة الجمال هو في بعض معانيه نوع من المقاومة. المثقفون العراقيون ممن لاذوا بالصمت في مواجهة الاحتلال الامريكي لبلادهم توزعوا بين موقفين: موقف اليائس من إمكانية الانتصار على أمريكا وموقف المنتظر الذي لا يريد أن يخسر مكانا في قائمة المستفيدين من المنتصر غير المتوقع في الصراع. الموقفان يؤكدان ضعف الإيمان بالثقافة في صفتها نوعا من المسؤولية. فنحن نكتب ونرسم ونغني ونؤلف الموسيقى وننشىء المدن وننحت من أجل أن يكون العالم أجمل. الفن في حد ذاته غاية، غير أنها غاية تنطوي على غايات تتفرع منها. غايات تنتصر للإنسان، لوعيه ولضرورته ولقيمه العظيمة. لا احد يحسد من اختاروا الموقفين على ما هم فيه من بلوى. ولكن علينا أن نتعلم الدرس جيدا، فالمواقف الضارة هي الأخرى تنفع للقياس. 2 ذات مرة، قبل سنوات وجد الشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي نفسه في مؤتمر مشبوه في العاصمة الاردنية. هناك خديعة لا أعرف أسرارها تتعلق بكيفية وسبب وجوده هناك. المهم، الرجل ألقى يومها كلمة نارية هي في حقيقتها بيان للمقاومة. لقد وضع العزاوي يومها الأمور في نصابها الطبيعي. وظيفة المثقف في الأزمنة العصيبة أن يقف مع شعبه وأن يقول: لا لكل ما يمكن أن يهين كرامة ذلك الشعب. انتصر الشاعر لنفسه ولكرامته بعد أن كادت أن تهدر بسبب خديعة ما. في الحقيقة أدرك العزاوي لحظتها أن شيئا أكبر منه ومن أشعاره ومن رواياته يمكن أن ينهار لو أنه صمت: تلك البلاد التي كان واحدا من صناعها. في اللحظة المناسبة أعلن الرجل عن مسؤوليته. كما لو أن الرجل ضرب جميع المتعاونين مع المحتل بحذائه. فعلها العزاوي مرة واحدة. هذا يكفي لكي يكون لصمته معنى. أما الذين حضروا ذلك المؤتمر الذي جرى بتمويل من المخابرات الأمريكية وعادوا إلى منافيهم صامتين، فقد كان لصمتهم معنى مختلف. هو معنى القبول بالعار والتهافت عليه. وبالمناسبة يمكننا القول أن كل المبدعين العراقيين الكبار لم يكتفوا بالصمت بل وقفوا مع شعبهم مقاومين. قرود المهرجانات وحدها وجدت في ما يحدث مناسبة لاختراع غوايات يمكن اتخاذها أعذارا للصمت. أبناء خيانة لن تصل إلى هدفها حتما. فالعراق لن يكون أمريكيا. العراق لن يكون نوعا من امارة خليجية. العراق هو ابن رؤاه التي تحرق كل مرآة تمر بها أو تخترقها. صمت اليائس أو صمت المنتظر لا يمتّان بصلة لوجدان عميق لم يكن محمد باقر الحكيم وهو إيراني من صناعه بل كانت زهور حسين وهي الأخرى ايرانية من صناعه الكبار. (برتا بلاو). علينا أن نعرف أن العراق كان دائما حاضنة حضارات. لا أحد يلوم بيكاسو حين مد يده إلى الأقنعة الأفريقية. (يا هو اليرحم بحالي ييمه/ لو دهري رماني). كانت المغنية تقول كما لو أنها تهبنا نبوءة لما سيجري لوطنها البديل: العراق. 3 بين أحذية أهالي الفلوجة التي استقبلوا بها القوات الأمريكية عام 2003 وبين حذائي منتظر الزيدي اللذين وجههما مباشرة الى الرئيس بوش في نهاية عهده الاجرامي المظلم مسافة تزيد على الخمس سنوات، حاول مثقفو الاحتلال العراقيون فيها أن يمشوا حفاة في حضرة المحتل، على سجادة فارسية، فيما كانت ماكنة المحو تعمل بسرعة من أجل أن تمحو كل ما يشير إلى العراق التاريخي. كان عدد منهم منشغلا في بناء مراكز للدراسات الاستراتيجية التي تبحث في شؤون عشائر العراق ومكوناته الطائفية والعرقية ومستقبل الأقاليم في ظل دولة لا وجود لها إلا على خرائط الجمعية العامة للأمم المتحدة. (خاين ما نسيت/ وياي شحجيت). لقد وهب المتعاونون ماكنة المحو زيتا هو مزيج من دم العراقيين ومن عرق يتمهم ومن دموع اراملهم ومن مياه ظهورهم. لقد تخيلوا أن كل شيء عاد إلى حالته السائلة: الكتب ليست إلا حبرا. وليست الأغاني إلا دموعا. لقد اطمأن البعض منهم فصار يصفي حساباته مع المصطلح. صار ذلك البعض يستنكر الموقف الهمجي الذي اعتبر نوري السعيد قندرة فيما اعتبر صالح جبر قيطانا لتلك القندرة، وهما اللذان سعيا لربط العراق بمعاهدة ذل شبيهة بالمعاهدة التي وقعها المالكي والطالباني. قراءة مخزية للتاريخ يسعى روادها إلى تبديد مصطلح الخيانة. قبل أيام وعن طريق الخطأ حضرت لثوان حفل توقيع كتاب في عمان. كان ( أبو لهب) وهو سفير سابق لحكومة الاحتلال في عمان يوقع كتاب مذكراته التي هي مجموعة من الأكاذيب، غير أنني رأيت في ثوان معدودات في ذلك الحفل عددا من الوجوه يشعر المرء إزاءها باليأس التاريخي. ديناصورات أحيا الاحتلال فيها رغبتها في الانتقام. يتكلمون عن العائلة الملكية المغدورة فيما تؤكد الوكالات المحايدة أن الامريكان قتلوا أكثر من مليون عراقي في الوقت الذي تعرضت فيه الملايين من العراقيين للطرد خارج العراق وداخله. صفوة حقيرة لا يهمها مصير الشعب العراقي بقدر ما يهمها أن تؤكد للتاريخ أن نوري السعيد لم يكن قندرة. وكما أتوقع فإن نوري السعيد نفسه كان يفضل أن يكون قندرة على أن يقتل شعب كان يترأس حكومته. 4 اللحظة التاريخية التي وهبت مثقفا من نوع الصحافي منتظر الزيدي فكرة أن يرمي بحذاءيه إلى التاريخ هي لحظة قدر، ينتظره شعب بأكمله. علينا أن نصدق أن البشرية كلها استقبلت تلك الرمية بفرح خالص. الزيدي مثل البشرية كلها في لحظة خلاص، غير أنه لم يكن يفكر بأسواق البورصة وضحاياها حين رمى بحذاءيه في وجه المجرم بوش. كان لديه ما يفكر به. خلاصة قوله، غنج صباه، قبلته في صلاة متخيلة، ضميره الذي يعذبه كل لحظة، صباحه ومساؤه، كتبه وأحلامه، حريته وكرامة شعبه، وأخيرا شغفه في أن يكون خالقا لمحكمة من نوع مختلف. بصمت خلاق أدانت براءة الزيدي إدارة بوش بالجرم. هو ذا شعب لا يملك من الأسلحة سوى أحذيته. حدث لم يتوقعه أحد أعادنا إلى جوهر الحكاية العراقية التي تتعلق باستعمال (القندرة) رمزاً. ربما أدخل الزيدي من حيث لا يدري الرئيس الأمريكي بوش في كتاب غينيس للأرقام القياسية كونه الرئيس الأول الذي يضرب بالأحذية، غير أنه في الوقت نفسه يجعلنا نعلن ولاءنا لحذاءين غيّرا التاريخ. ** منشور بصحيفة "القدس العربي" بتاريخ 17 ديسمبر 2008