كنت في بداية شبابي عندما وقع نظري في مكتبة منزلنا على كتاب يحمل عنوانا هو «الجريمة والعقاب» لكاتب لم أكن قد سمعت به قبل ذلك اليوم ويدعى فيودور دوستويفسكي. لاأعرف ما الذي جذبني نحو ذلك العنوان من بين العناوين الأخرى الموجودة وما إن شرعت بقراءة الصفحة الأولى ثم الثانية حتى أحسست أن قوة جاذبة لاتقاوم تشدني الى ذلك الكتاب الذي شعرت لروعته بأنني أمام شريط سينمائي وذلك بسبب براعة الكاتب بوصف الأشخاص بدقة متناهية، إضافة للتحليل النفسي العميق لعوالمهم الداخلية، وهو ماجعلني أشعر بأنني أعرف هؤلاء الأشخاص وأتمنى لو أصادفهم في الطريق كما أن اهتمام الكاتب بأدق تفاصيل المكان، يجعل القارئ أيضاً يظن أنه قد مر به أو عاش فيه، فما من قارئ لهذه الرواية، وغيرها من روايات دوستوفسكي بشكل خاص، إلا ويشعر بأنه يعرف بطلها راسكولينكوف شخصيا وبإمكانه أن يميزه من بين ألوف الناس كذلك يعرف سونيا، الفتاة الرائعة، بائعة الهوى التي صادفها راسكولينكوف وأحبها ورهن أشياء غالية عليه لدى المرابية العجوز كي يؤمن لها المال لينقذها ويغنيها عن السعي إليه على حساب كرامتها الشيء نفسه ينطبق على أمه وأخته وصاحبة المسكن الذي يسكن فيه، كذلك المرابية التي كان يرهن لديها أشياءه الخاصة مقابل مبالغ بخسة، جميع هؤلاء الأشخاص يقترب منهم القارئ لدرجة كبيرة وينحفرون في ذاكرته حتى يصبح من المحال عليه أن ينسى أيا منهم. لايمكن الحديث في هذه العجالة عن رواية عظيمة كتبت عنها مئات الدراسات التحليلية النفسية الطويلة، خصوصا حول الدوافع التي حدت ببطل الرواية على قتل المرابية العجوز. الجريمة والعقاب هي رواية لجميع العصور، ولابد من قراءتها عدة مرات وعلى مستويات متعددة، وفي كل مرة ستتضاعف متعة قراءتها، وهو ماسيدفع القارئ للبحث عن أعمال أخرى لهذا الكاتب العظيم نذكر له منها الأخوة كارامازوف، الأبله، المقامر، المراهق، ذكريات من منزل الموتى، والمساكين، والليالي البيضاء، وغيرهم الكثير، وإن خير من قام بترجمة أعمال دوستويفسكي الى العربية هو المرحوم الدكتور سامي الدروبي الذي قال أحد المستشرقين الروس حين سئل عن رأيه بترجمة سامي الدروبي لأعمال دوستوفسكي الكاملة: لو كتب دوستويفسكي باللغة العربية مباشرة لما كتب بأجمل من تلك اللغة التي ترجم بها الدروبي تلك الأعمال. بقي أن نتفكر بعظمة قول المتنبي عندما قال: وخير جليس في الأنام كتاب، الكتاب هو الشيء الوحيد الذي لايمل منه، وهو الصديق الوحيد الذي يفيد دائماً، حتى لو كان الكتاب غثا، فإن القارئ بالتأكيد سوف يستفيد منه لأنه سوف يمكنه من المقارنة مابينه وما بين الثمين من الكتب فكما أن الجسد بحاجة لكل أنواع الفيتامينات كي ينمو بشكل صحي، كذلك الفكر الإنساني بحاجة لكل أنواع المعارف والاتجاهات كي يتطور بشكل سليم، لذا فإن كل مايقرؤه الإنسان هو مفيد له لأنه ينمي ملكة التفكير والتحليل والنقد والمقارنة. الإنسان في المجتمعات المتحضرة، تربى على القراءة، تجد القارئ موجودا أمامك كيفما تلفت: في الحدائق العامة، على مواقف الباصات، في الحافلات اذهبوا الى أي سوبر ماركت أو دكان صغير في الغرب تجدون قسما خاصا لبيع الكتب والمطبوعات اليومية والأسبوعية والشهرية، وهو مايدل على أن القارئ موجود يوميا وفي كل مكان وعلى مدار الساعة عندنا للأسف، وبعد أن وصلت إلينا موضة «المولات» نذهب الى هناك فلا نجد إلا المأكولات والملبوسات وأدوات الزينة والأشياء الاستهلاكية الأخرى التي تملأ البطن وتزين البدن والوجه فقط، ولم نجد كتابا أو جريدة تملأ الرأس. في البلدان التي تنتشر فيها ثقافة المطالعة ويدركون متعة القراءة، يطبع ماركيز من كل رواية من رواياته مليون نسخة كطبعة أولى سرعان ماتنفد من الأسواق حتى تلحق بها مليون ثانية وثالثة وهكذا، والشيء نفسه ينطبق على جميع الكتاب والمفكرين هناك ولو كان بأرقام أقل قليلا بينما كان نجيب محفوظ رحمه الله يطبع خمسة آلاف نسخة من روايته لثلاثمئة مليون عربي، وأظن أن هذه الآلاف الخمسة لم تكن تنفد من المكتبات قبل مرور أعوام. وأخيراً، وعلى ذمة تقرير الأممالمتحدة للتنمية لعام 2005، فقد ذكر ذلك التقرير أن حصة العربي من القراءة في العام لاتتجاوز العشرين دقيقة ولاأظنهم بهذا الإحصاء قد حسبوا سوى ماينفقه العربي من قراءة فواتير الماء والكهرباء والهاتف والضرائب التي يدفعها شهريا ومع ذلك أظن أن حتى هذه الفواتير، هي بحاجة لأكثر من عشرين دقيقة في العام لقراءتها، لأن المواطن، وأمام قيمة كل فاتورة من هذه الفواتير يأخذ حرنة وصفنة قد تستغرق ساعات متفكرا من أين سيؤمن قيمتها لأمين الصندوق؟ وإذا أمنها هذا الشهر، فمن أين سيؤمنها الشهر القادم. المصدر: جريدة تشرين السورية بتاريخ: 23 يونيو 2008