لماذا يحب العرب والعالم لبنان؟ د. سعد الدين إبراهيم زرت لبنان للمرة الرابعة خلال سنتين، في الأسبوع الثالث من يونيه 2008، بمناسبة مؤتمر عن تحديات العولمة للأسرة العربية ، نظمته جامعة لبنان الأمريكية، في بيروت، ومركز الدوحة الدولي للأسرة والتنمية بدولة قطر. وتزامن موعد المؤتمر مع الذكري الثانية، لما أصبح يسمي بحرب الصيف بين حزب الله وإسرائيل، والتي صمد فيها مقاتلوا حزب الله لستج أسابيع أمام هجوم آلة الحرب الإسرائيلية الرهيبة، أرضاً وبحراً وجواً. وأكثر من ذلك، شن مقاتلوا حزب الله عدة غارات صاروخية، طالت مراكز سكانية رئيسية في الداخل الإسرائيلي. ولم يستسلم حزب الله، أو يذعن لأي من الشروط الإسرائيلية، بإلقاء السلاح والإفراج عن جنديين إسرائيليين أسيرين عند حزب الله. ولم تتوقف الحرب إلا بعد تدخل مجلس الأمن وإرسال قوات دولية للفصل بين مقاتلي حزب الله وإسرائيل. واعتبر الرأي العام الإسرائيلي ذلك هزيمة غير مسبوقة للجيش الذي لا يقهر . وشكّلت لجنة تحقيق مستقلة من كبار قضاتها وجنرالاتها المتقاعدين، لتقصي أسباب هذه الهزيمة . طبعاً خلال هذه الأسابيع الستة، تعمدت إسرائيل أن تدمر معظم البنية الأساسية اللبنانية من طرق وجسور ومطارات ومحطات طاقة، لكي تثير الرأي العام اللبناني علي حزب الله، الذي استفز إسرائيل، بأسر جنديين من جنودها، وتسبب بذلك في انفجار حرب الصيف. وكان حزب الله قد فعل ذلك، دون إذن أو تنسيق مع الحكومة اللبنانية الشرعية والمنتخبة ديمقراطياً (منذ عام 2005). ولكن الشعب اللبناني في لحظة المواجهة، وقف صفاً واحداً، مؤيداً لحزب الله. بل إن زعيم الحزب، وهو السيد حسن نصر الله، شكر الشعب اللبناني والأمة العربية علي دعمها، لمقاتلي الحزب، وتعهد أن تتم محاسبته بعد وقف المعارك. وبالفعل اعتذر الرجل، فيما بعد، بسبب ما حدث للبنية الأساسية، وقدم العزاء والتعويض للمئات ممن سقطوا شهداء أو جرحي من المدنيين. كما عرض إعادة بناء ما دمرته إسرائيل من مرافق. ولكن كيف لحزب ومقاتلين غير نظاميين، أن يقوموا بما لم تنجح فيه كل الجيوش العربية في عدة حروب خلال الستين سنة السابقة؟ وكيف لحزب أن يقوم بما هو دور الدولة اللبنانية، سواء في الدفاع عن ترابها الوطني أو إعادة بناء ما دمرته الحرب؟ والإجابة علي السؤالين، وغيرهما من أسئلة عن حزب الله، ولبنان، هي أن لبنان المجتمع والدولة يختلف عن أي مجتمع عربي وعن أي دولة عربية. إن لبنان هو كيان فريد بسكانه الذين لا يتجاوزون خمسة ملايين، يتوزعون علي ثماني عشرة طائفة دينية ومذهبية مختلفة، وتعتز كل منها بذاتها وهويتها وتميزها. وتتفاوت هذه الطوائف في حجمها وثراء أبنائها، وتأثيرها السياسي والثقافي داخل لبنان. كما أن عدداً منها له علاقات، خارجية وطيدة مع دول وقوي أخري في المنطقة وخارجها. من ذلك أن المسيحيين الموارنة علي علاقة وثيقة بفرنسا والفاتيكان، والمسيحيون الأرذوكس علي علاقة وطيدة بروسيا واليونان، والدروز علي علاقة قوية تاريخياً ببريطانيا ومصر، والمسلمون السُنة علي علاقة قوية بالسعودية ومصر، والمسلمون الشيعة علي علاقة قوية بإيران والعراق.. . وأصبحت كل طائفة تستقوي بحلفائها خارج لبنان. ومن هنا الإجابة علي الكيفية التي استطاع بها حزب الله أن يواجه إسرائيل وحده، دون إذن أو تصريح أو تنسيق مع الدولة اللبنانية. فحزب الله هو الجناح السياسي والعسكري للمسلمين الشيعة في لبنان، وتدعمه إيران بالسلاح والمال، وتسمح سوريا، لأسباب إقليمية، بمرور هذا المال والسلاح عبر أراضيها. ومن هنا استطاع حزب الله أن يفعل ما فعل في حرب الصيف (2006) ويحوز علي إعجاب العرب والمسلمين جميعاًَ، وأغلبيتهم الساحقة هي من غير الشيعة، بل وربما تضطهد هذه الأغلبية السُنية الشيعة في بلدانهم، حيث يطلقون علي الشيعة الفرقة الرفدة ، أو تنظر إليهم نظرة متدنية. ولكن حينما يأتي الأمر لإسرائيل، التي يعتبرونها أعدي الأعداء، فإن معظم العرب والمسلمين يُعجبون، ويصفقون لمن يتصدي لها. ومن هنا الإعجاب بحزب الله وزعيمه رجل الدين الشيعي السيد حسن نصر الله. ومن هنا استعداد الجميع لالتماس الأعذار لهما علي عدم التنسيق مع الدولة اللبنانية، أو أخذ تصريح منها لمحاربة إسرائيل!. وهكذا، فإن عرباً كثيرين ممن يحبون لبنان، يحبونها كرامة وتكريماً لحزب الله، وللسيد حسن نصر الله. ولكن هناك حباً سابقاً يحمله عرب كثيرون، ويعود إلي قرن سابق علي مولد حسن نصر الله وحزب الله. ومن هذا، حب العرب من خارج لبنان لطبيعته الخلابة، والتي جذبت الميسورين العرب للاصطياف فيه. ومنهم أمير الشعراء أحمد شوقي، والذي نظم شعراً عذباً في لبنان، جعل الذين لم يزوره، يقعون في حبه ويتشوقون لزيارته. إلي جانب الطبيعة الخلابة، فإن لبنان كان من أوائل البلدان العربية انفتاحاً علي العالم الخارجي. وتعود جذور هذا الانفتاح إلي الفينيقيين القدامي، الذين استخدموا خشب الأرز الشهير في بناء سفن، جابوا بها البحر الأبيض المتوسط، وشيدوا محطات لأساطيلهم التجارية منها طرابلس الشرق، وطرابلس الغرب (ليبيا)، وتونس.. . وغيرها. ومع هذه التقاليد التجارية العريقة، نمت صناعة البنوك، ومع التواصل المبكر مع الغرب، تحولت لبنان إلي عاصمة مالية للشرق الأوسط والعالم العربي. ومع كل انقلاب عسكري، أو ثورة، تحدث في البلاد العربية، كانت رؤوس الأموال، تهرب وتجد مأوي أميناً في لبنان. ومن هنا اكتسبت لبنان سمعة مصرفية أشبه بتلك التي تتمتع بها سويسرا.. . ومن هنا أيضاً أحبها الأغنياء، إلي جانب الشعراء. بسبب هذا الانفتاح التجاري والثقافي، حرص اللبنانيون علي حرية التفكير والتعبير. فانتعشت الصحافة والطباعة والنشر وأصبحت لبنان مقصداً وملجأ لدعاة الحرية وأصحاب الأيدلوجيات، التي يضيق بهم حكام بلادهم من الطغاة والمستبدين. وهكذا أصبح العرب من عُشاق الحرية يحبون لبنان، حتي لمن لم يزوروها في حياتهم. إن لبنان هذا المتنوع دينياً وطائفياً ومذهبياً، وذا الطبيعة الخلابة من جبال وسهول ووديان وأنهار، ألهم في أوقات سِلمه واستقراره إبداعاً ثقافياً هائلاً. فارتبط لبنان منذ ثلاثة أجيال باشعار جبران خليل جبران وبألحان فريد الأطرش والأخوان رحباني، وبأصوات أسمهان وفيروز وماجدة الرومي، وبإعلاميين أفذاذ بدءاً من غسان تويني وانتهاء بجورج قرداحي، وبممثلين عمالقة بداية بنجيب الريحاني وبشارة واكيم وانتهاء باستعراضيات فاتنات، مثل نانسي عجرم وهيفاء وهبي. ولبنان هذا المتنوع، والمنفتح، والحر، والجميل، هو الذي أتاح إنشاء اشهر جامعة حديثة، وهي الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB) في منتصف القرن التاسع عشر، والتي أصبحت نموذجاً يحتذي. فسرعان ما نشأت شبيهات لها في القاهرة (AUC)، واسطانبول (Robert Collage) في القرن العشرين، ثم تكاثر نفس النموذج، حتي وصل إلي حوالي مائة جامعة أمريكية من الخليج إلي المحيط. ومنها الجامعة التي استضافت مؤتمرنا، وهي جامعة لبنان الأمريكية. وهكذا أصبحت لبنان قاعدة وطيدة للتعليم الحديث المتميز. لهذه الأسباب جميعاً، أحب العرب لبنان. وهم يسعدون حينما تكون لبنان آمنة مستقرة. لأنها تصبح وطناً ثانياً لكل عربي، من المحيط إلي الخليج. وهم يحزنون حينما يعصف اللبنانيون أو جيرانهم باستقرار لبنان وأمنهم. فهم حينئذ يشعرون، كما لو كانوا قد فقدوا وطنهم الثاني. لذلك ابتهج العرب جميعاً، حينما نجحت الوساطة القطرية في إنجاز مصالحة بين الفرقاء المتنازعين في لبنان منذ ما بعد حرب الصيف في أبريل الماضي. وهو نزاع أصاب الحياة في لبنان، بما يشبه الشلل. وحينما تبادل العرب من خارج لبنان خواطرهم، وعبّروا عن بهجتهم للعودة إلي لبنان الآمن المستقر، نبهنا بعض المشاركين الأجانب إلي أن العالم كله، وليس العرب وحدهم، يحب لبنان، وقد ابتهج العالم كله باتفاق الدوحة. فسألنا، نحن- العرب- المشاركين زملاءنا الأجانب، لماذا تحبون لبنان؟ أجاب أحدهم، وهو فرنسي، لأن اللبنانيين يجيدون اللغة الفرنسية ويحبون فرنسا! وقال آخر، وهو أمريكي، لأن اللبنانيين هم الأكثر انفتاحاً وتقبلاً وتعايشاً مع الآخرين والثقافات الأخري. وقال ثالث، وهو إيطالي، أن المطبخ اللبناني (الكوزين) هو الوحيد الذي يتفوق علي المطبخ الإيطالي. وقال رابع، وهو بريطاني بشيء من السخرية، لأن لبنان هي المكان الوحيد في الشرق الأوسط الذي استطاعت بريطانيا أن تنشئ فيه مدرسة الجاسوسية في بلدة شملان الجبلية، يتعلم فيها جواسيس المستقبل اللغة العربية. بطلاقة، وكذلك كل اللهجات المحلية.. .! وقالت سيدة فرنسية، إن اللبنانيات هن الأكثر أناقة، حتي منا نحن الباريسيات ! وهكذا اكتملت الصورة، والإجابة أو الإجابات، علي السؤال لماذا يحب العرب والعالم لبنان؟ والله أعلم عن صحيفة الراية القطرية 28/6/2008