أوباما صديق العرب اللدود أحمد عزالعرب يتميز العقل العربي بقدرة فائقة علي تحويل الأماني والأحلام إلي حقائق يتعلق بها ويرتب حياته علي أساسها، فعلى سبيل المثال بمجرد أن أعلن السيناتور الأمريكى الأفريقي الأصل ذو الأب المسلم ترشيح نفسه للرئاسة الأمريكية وبدا أن فرصته في الفوز قوية حتي علت الفرحة الوجوه العديدة من مثقفى منطقتنا العربية وانعكست بالتالي علي جزء كبير من الرأي العام. وبدأ الكلام عن رئيس أمريكى أسود لأول مرة في التاريخ، وبدأ الأمل في أن يتحقق علي يديه الحل العادل الشامل للمشكلة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال البغيض للعراق وغيرها من الدول المنكوبة بالاستعمار الأمريكى. ولكن بمجرد فوز أوباما بترشيح الحزب الديمقراطى له إذا به يسارع إلي كبرى المنظمات الصهيونية في أمريكا »إيباك« ويؤكد في خطبة عصماء تأييده الكامل لإسرائيل كدولة يهودية نقية لليهود فقط ويتجاوز السياسة الأمريكية الرسمية نفسها، فيعلن تأييده لأن تكون القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية، ثم يؤكد بعد ذلك بأيام قليلة تعليقاً علي مناورات إسرائيل العسكرية للتهديد بضرب مواقع إيران النووية قائلاً إن إيران خطر علي إسرائيل ومن حق إسرائيل عمل كل ما تراه لصيانة أمنها. وسرعان ما بدأت خيبة الأمل تسيطر علي معظم تعليقات الإعلام العربي بجميع اتجاهاته منددة »بخيانة« اخينا الأفريقي أوباما لقضايانا، ولما كان الأخ أوباما مظلوماً في حسن ظننا به أول الأمر وخيبة أملنا فيه فيما بعد فإننا سنحاول في السطور التالية تقديم رؤيتنا لتفسير ما يحدث علي الساحة الأمريكية. النخبة الاستعمارية الأمريكية الحاكمة ومن ورائها المصالح الهائلة من صناعة السلاح والبترول وغيرها من الاحتكارات الاقتصادية الهائلة وجهاز الدعاية الضخم الذي يساندها من صحافة وإذاعة وتليفزيون وغيرها هي نخبة غاية في الذكاء والشراسة والقدرة علي التكيف مع المعطيات المحيطة بها وتلميع صورتها، يستوى في ذلك أن يكون الرئيس الجالس في البيت الأبيض من الجمهوريين الذين يميل أسلوبهم عادة إلي البلطجة وأخلاق رعاة البقر أو الديمقراطيين الذين يغطون شراستهم بغطاء من التهذب ويلبسون قفازاً حريرياً فوق البونيه الحديدية التي يضربون بها خصومهم وضحاياهم. ولا خلاف إطلاقاً بين الحزبين اللذين يتبادلان الحكم علي الأهداف الاستعمارية الاستراتيجية، فالخلاف الوحيد بينهما هو في أسلوب تنفيذ هذه الأهداف. وتستغل هذه النخبة الحاكمة إلي أقصي الطاقة عدم اهتمام الأغلبية الساحقة من الأمريكيين بالسياسة الخارجية والعالم خارج أمريكا والتركيز علي مشاكلهم الإقليمية، بل والبلدن بعكس مواطني أوروبا المسيسين والناشطين سياسياً إلي درجة لا يعرفها أو يهتم بها المواطن الأمريكى، وسنضرب في عجالة مثالين من التاريخ الأمريكي الحديث للتدليل علي كفاءة وذكاء هذه النخبة الحاكمة وقدرتها علي تلميع وجهها كلما تورطت في أخطاء قاتلة. تورطت أمريكا في حرب فيتنام أحد عشر عاماً من 1964 حتي 1975 خسرت خلالها ستين ألف قتيل وقرابة النصف مليون جريح وعاجز بجانب مئات المليارات من الدولارات. ورغم إبادتها لقرابة الثلاثة ملايين فيتنامي خرجت في النهاية فاشلة بعد أن عجزت تماماً عن كسر إرادة الشعب الفيتنامى وإجباره علي الاستسلام، وفي السنوات الأخيرة من الحرب تعرضت الحكومة الأمريكية لفضيحتين مدويتين أولاهما طرد نائب الرئيس سبيرو أجنيو من منصبه بعد ثبوت جريمة رشوة عليه، وثانيتهما فضيحة ووترجيت الشهيرة التي انتهت بسقوط الرئيس نيكسون. وكان لزاماً بعد كل هذا التمزق للمجتمع الأمريكى الذى سببته حرب فيتنام وفضائح قمة السلطة البحث سريعاً عن وجه نقي يلم شمل المجتمع ويعيد ثقته بنفسه، ووجدت النخبة المسيطرة ضالتها في »قديس« متدين من الجنوب هو الرئيس السابق كارتر الذى دفعت به إلي كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، ونجح »القديس« خلال سنوات حكمه الأربع من 1977 حتي نهاية 1980 في إعادة احترام العالم لأمريكا ولم شمل شعبها، وكانت الحرب الباردة والاتحاد السوفيتى مازالا قائمين فسارع »القديس« بإنشاء قوة الانتشار السريع التي كانت رأس الحربة في السيطرة علي منطقة الخليج البترولية. كما نجح في نفس الوقت في استدراج مصر إلي معاهدة كامب ديفيد للصلح المنفرد بين مصر وإسرائيل وتفتيت الجبهة العربية في صراع الوجود ضد إسرائيل مقدماً لها أكبر خدمة في تاريخها، ثم رحلة كارتر بعد أداء مهمته وحكم بعده الحمهوريون اثنى عشر عاماً تحت ريجان ثم بوش الأب سقط الاتحاد السوفيتي وتفكك في نهايتها وانفردت أمريكا بالقطبية علي العالم، وجاءت بعد ذلك إدارة كلينتون الديمقراطية لمدة ثماني سنوات أدرك بذكائه خلالها أن سياسة العصا الغليظة وحدها مع العالم باهظة التكاليف. خاصة بعد أن نجح بوش الأب في احتلال دول الخليج بطلب منها ومساعدة عسكرية من »حلفائه« العرب بعد أن هزم صدام حسين وطرد جيشه من الكويت، وركز كلينتون سنوات حكمه في انعاش الاقتصاد الأمريكي وإيقاف برامج التسليح باهظة التكلفة، مع التسلل الاقتصادي إلي وسط آسيا للسيطرة علي بترول بحر قزوين دون حروب.. وبعد كلينتون جاء بوش الابن كواجهة لأعتي قوى اليمين وأكثرها شراً في تحالف كامل مع الصهيونية الليكودية، وبعد عملية سبتمبر 2001 محكمة الاخراج جاءت الفرصة الذهبية لغزو أفغانستان ثم العراق للسيطرة علي كل منابع الطاقة وتفتيت دول المنطقة مع تعيين إسرائىل قاعدة الغرب العسكرية شرطى حراسة لها. ولكن بوش الابن غرق فى مستنقع العراق وأفغانستان وفشل حتي تاريخه في تفتيت دول المنطقة بعد أن كلف الخزينة الأمريكية مئات المليارات فضلاً عن عشرات الألوف بين قتيل وجريح بخلاف مئات الألوف من أهل المنطقة. وسقطت سمعة أمريكا في العالم إلي الحضيض وانكشفت محدودية قوتها العسكرية الهائلة بعد عجزها الكامل عن تطويع أفغانستان والعراق، وبدأ حلفاؤها ينفضون عنها ويسحبون قواتهم من التحالف، وهنا تظهر للمرة الثانية قدرة وذكاء النخبة الحاكمة في أمريكا بعد أن وصلت كراهية العالم لها إلي درجة غير مسبوقة. يخرج الحاوي الأمريكى من جرابه هذه المرة سحراً غير مسبوق في التاريخ منذ قيام أمريكا لليوم في صورة أرنب أسود من أفريقيا التي خطف منها ملايين العبيد فيما سبق ليبنى بهم نهضته، ويدفع بالأرنب الأسود الخارج من قبعة المستعمر الأبيض إلي الانتخاب لأعلي منصب في أمريكا وأقوي منصب في العالم، وهو كرسي الرئاسة. ويهلل العالم ويصفق ل»الديمقراطية« الأمريكية التي تتيح هذه الفرصة لرجل من الإقليم السوداء المضطهدة عرقياً، وينسي العالم أو يكاد كل جرائم بوش الابن ويتطلع إلي الرئيس الأسود المقبل الذى نكاد نقطع بنجاحه في الانتخابات لحاجة أمريكا الماسة إليه مرحلياً، ولكن الرجل الأسود من العقل والذكاء ما يعلم معه أوضاع القوي المسيطرة والاستراتيجيات الاستعمارية التي لا تتغير بتغيير الرؤساء. فيسارع إلي إىباك وغيرها من مراكز القوة ويهاجم حرب العراق ولكنه لا يلتزم بسحب جنود أمريكا منها بل تقليل عددهم و»إعادة انتشارهم«، ألم نقل في البداية إننا ظلمنا الأخ أوباما وأنه لا عزاء للسذج؟ عن صحيفة الوفد المصرية 25/6/2008