أوباما تلميذ صغير في البراري محمود مراد كان بعضنا، من فرط طيبة قلبنا، يظن أن المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية أوباما سوف يكون أكثر تعاطفاً مع قضايانا، استناداً إلى أنه من "السود" الذين عانوا طويلاً في الولاياتالمتحدة، وكانت المحال العامة المطاعم وغيرها إلى ما قبل ثلاثة عقود مضت، تعلق على أبوابها لافتات تقول: "ممنوع الدخول للكلاب والسود"، وكذلك بسبب أنه ينتسب بالأصل إلى إفريقيا ولا يزال أقاربه فيها وهي القارة التي كان الرجل الأبيض الأوروبي الذي استوطن أمريكا الشمالية وبعد أن قضى على أبنائها الأصليين الهنود الحمر قد اتجه إليها أي إفريقيا يسوق أبناءها السود ليصبحوا عبيداً يباعون ويشرون في أسواق النخاسة!
هكذا، كان الظن أن الرجل سيعمل بأصله كما يقول المثل وسيحرص على أن يرى الصورة على حقيقتها فينحاز إلى المبادئ وسيعطي ما لقيصر.. لقيصر، وما لله.. لله، وما دعم هذا الظن أن الحزب الديمقراطي تاريخياً نشأ معتمداً على عاتق الرجال الأكثر تحرراً في شمال الولاياتالمتحدةالأمريكية يرفعون شعار الديمقراطية والحقوق المشروعة في مواجهة الحزب الجمهوري الذي أسسه المحافظون خاصة من الولايات الجنوبية الذين يميلون إلى التشدد وسيادة الطبقة الأكثر ثراء.
كان هذا هو الظن وبسببه كانت الخشية ألا يفوز بترشيح حزبه، لكنه فاز وتراجعت هيلاري التي كان مشكوكاً أيضاً في نجاحها لأنها امرأة غير حقيقية شكلاً ومضموناً فقد لعبت جراحات التجميل وأدواته دورها لتحسين صورتها، أما في جوهرها فإنها امرأة قد جعلت مصلحتها الطموحة فوق الكرامة والأخلاقيات! وهذا بالتأكيد هو ما ساعد أوباما على الفوز إلى جانب سببين أساسيين:
السبب الأول: أن العقلية الأمريكية والمؤكد أنها ذكية في الإبهار والتسويق رأت أن اختيار أوباما وتصعيده إلى مرتبة "مرشح رئاسة" يعطي الولاياتالمتحدة برهاناً على أنها لا تميز على أسس عرقية وتساوي بين هذا وذاك.
أما السبب الثاني: فهو لا يقل أهمية وهو تأكيد قوة الآلة الأمريكية الخبيثة بقوى الضغط المختلفة.. فالكل يدخلون الآلة لقولبتهم حسب الأشكال التي تريدها دون الخروج على طاعتها، ولكي يعرف الآخرون الذين في قلوبهم طيبة مدى القوة.
ولما فاز أوباما شعر بأنها قد دانت إليه، واقتربت أسنانه من الثمرة ليقضمها فكشف عن حقيقته ووقف أمام الجمع الصهيوني في منظمتهم "إيباك" ليلقي خطاب العرض وفيه تساقطت كل الأستار وظهر مثل تلميذ صغير في البراري، بعيداً عن التحضر والثقافة، أعدوا له خطبة يحفظها ليلقيها دون أن يعرف أو يعي مفرداتها وماذا تعني.
لقد دافع عن وجود وأمن "إسرائيل"، ولا أحد يعترض على هذا أو ينتظر عكسه فإن تلك هي سياسة بلاده، وقال إن هذه قضية مقدسة، وانضم إلى رأي جورج بوش بقوله إنها دولة يهودية، وهي الوطن القومي لليهود، أي أنه وصل إلى آخر المدى وأعطى اطمئناناً للدولة العبرية بأنه مثل بوش، بل زاد على ذلك بأن ذكر أن اليهود رفاق نضال للسود والأمريكيين في معارك الحرية! وهنا تبدو الدهشة إذا لم يتحدث التاريخ عن هذا، ولم يرد ذكر الصهاينة أو اليهود في حروب الاستقلال التي حدث في القرن الثامن عشر الميلادي، وإنما قال التاريخ ووثائقه موجودة.. إن الرئيس الأمريكي المؤسس بنيامين فرانكلين قد حذر الأمريكيين في خطاب عام أمام الكونجرس من اليهود، وقال إن عددهم الآن وقت الخطاب صغير وأنه لا يوجد أكثر من مائة يهودي في مجال الحياة العامة الاقتصادية تحديداً ولكن حاذروا هكذا شدد وقال إنهم سيتسللون للسيطرة على الإدارة ومراكز صنع القرار.
وإذاً، من أين جاء أوباما بتفسيراته التاريخية، اللهم إلا إذا كانت المجموعة الصهيونية هي التي كتبت الخطبة بأكاذيبها ليحفظها ويقولها؟
وليس هذا فقط، وإنما قال أوباما ما لم يقله غيره بأن القدس هي العاصمة الأبدية ل "إسرائيل" مع أنها ضمن المناطق المحتلة بعد 1967 والتي من المفترض أن تجري المباحثات بشأنها، ولكنها والحق يقال تعطف بالقول إن الفلسطينيين ستكون لهم دولتهم لكن بشرط أن يحافظوا على أمن "إسرائيل" المقدس، وهاجم "الإرهابيين" من حماس إلى إيران، وببجاحة طلب من مصر منع تهريب الأسلحة إلى غزة وإلى الفلسطينيين "الإرهابيين"، فهكذا كتب له الصهاينة، مع أنه لو كان قد بذل جهداً بسيطاً وسأل المرشح الديمقراطي الرئاسي السابق "جون كيري" لكان قد ذكر له الحقيقة! ولو كان قد قرأ الصحف لعرف أن حكاية تهريب الأسلحة هذه، كذبة كبرى.
ودون استطراد في تحليل ما قاله "أوباما" فإنه على ما يبدو قد باع نفسه وغادر جلده وتنكر لأصوله وعادى أهله، ولم يكن هو أول من فعل ذلك فقد فعلتها قبله كوندوليزا رايس، وفعلها قبلهما آخرون من السود سواء على المستوى السياسي أو الفني مثل الممثل "سام ديفيز"، ذلك في حين أن آخرين من السود كانوا عظاماً ولا يزال يوجد عقلاء وعظماء من البيض.
ليس معنى الكلام أن السود من أصل إفريقي في الولاياتالمتحدة وغيرها عليهم بالضرورة الانحياز للأفارقة وللعرب، إطلاقا، فإن أحداً لا يطلب منهم هذا، بل ولا نطلبه من المصريين والعرب الموجودين هناك، إننا لا نطلب من هؤلاء وهؤلاء شيئاً أكثر من أن يكونوا مواطنين صالحين في الدول التي ارتضوا أن يهاجروا إليها، وربما من باب الصلاح والإصلاح أن يكونوا مع المبادئ والحقوق، وربما لخلفيتهم وأصولهم يكونون أكثر تفهماً للواقع.
ولعلنا أيضا نقول، إنه في تقديرنا قد أصبح المجال مفتوحاً أمام المرشح الجمهوري جون ماكين، لأن الأمريكيين لن يقبلوا انتخاب رئيس أسود، فيكفي فولكلوريا وللتأريخ أنه أصبح مرشحاً للرئاسة.
أما البيت الأبيض فهو للرجل الأبيض وتحديداً لأحد أفراد مجموعة "الواسب" أي الأبيض الأنجلو ساكسوني البروتستانتي، ولم يشذ عن هذا في كل الرؤساء الأمريكيين سوى اثنين فقط كانا من الكاثوليك!
ولسوف يندم أوباما، وأكثر من هذا سوف يشعر بأنه خسر نفسه، وسوف يقول لنفسه ويقول له الآخرون: ليتك كنت أميناً على المبادئ متمسكاً بالحقوق، لتحفر لنفسك مكانة في التاريخ، وربما كنت ستبرز في موقع ما غير البيت الأبيض، أما وأنت فعلت هذا فسوف تصبح من أبرز الخاسرين. عن صحيفة الخليج الاماراتية 10/6/2008