كشف الضمير الإنسانى أن التاريخ لا يرصد سوى انتصارات الأقوياء ولا يسجل إلا ممارسات الحكام والسادة ولا ينشغل كثيرا بالضعفاء والبسطاء والمهمشين، فيبدو كأن التاريخ لا يحفل كثيرا بالأخلاق والقيم أو بالخير بصفة عامة فهو معنى بالحقائق والوقائع التى لا يحكمها إلا منطق القوة سواء كانت قوة الشر أم قوة الخير. وكان الحل أمام الضمير الإنسانى أن «يبدع» تاريخا لا ينتصر فيه إلا الأخيار من البسطاء والمستضعفين فى الأرض فكانت (الحواديت) هى الحل الذى يعيد التوازن إلى الإنسانية. ففى عالم الحواديت لا ينتصر الأشرار مهما أوتوا من قوة والخير هو صاحب الكلمة الأخيرة لكى يسدل الستار على النهايات السعيدة التى تطمئن بها قلوب البشر. وقد تسلمت الجدات مهمة «الحدوتة» التى تطمئن براءة الأطفال قبل أن يخلدوا إلى أحلامهم التى تحرسها الملائكة، فكانت الحدوتة تنتقى بطلها حطابا أو صيادا أو مزارعا فقيرا بلا سلطة ولا مال إلا قلبه الطيب وذكاءه وشجاعته.. إلخ من القيم النبيلة ويدخل البطل الصراعات التى لا قبل له بها مع قوى الشر التى تحيطه بأذاها حتى تكاد قلوب الأطفال أن تتوقف من شدة الخوف على بطلها الذى تتوحد مع قضيته وفى اللحظة المناسبة تغدق الحدوتة على البطل أكثر مما تمنيناه له، فيحقق الغنى والنفوذ ويصعد إلى القمة الاجتماعية ويحصل على المكانة التى نتمناها لأنفسنا نحن المنصتون بشغف. لكن قوة الضمير الإنسانى لا تكتفى بانتصار البطل فى الحواديت وإنما تأخذ على عاتقها أن تتدخل فى صنع التاريخ بحيث يأخذ أحيانا طابع «الحدوتة» التى يتطلع إليها الكبار قبل الصغار لتفتح أمامهم أبواب الأمل فى نهايات سعيدة فيها «من جد وجد» «ومن زرع حصد». ولاشك أن ضمير البشرية قد استراح كثيرا عندما رمق بطله «أوباما» وهو يصعد إلى قمة أقوى دولة فى العالم، وعندما رفع يده السمراء ليحيى الملايين التى احتشدت لتحييه وهو يؤدى قسم أول رئيس أسود للولايات المتحدة بدا التاريخ فخورا بإنجازه العظيم فى صياغة أعظم حدوتة واقعية فى التاريخ الحديث. ففى مجتمع الموزايكا التعددى الشهير بأمريكا والذى قام على إبادة السكان الأصليين، قامت علاقات قوة بين جماعات عرقية وثقافية سيطرت عليها جماعة (الواسب) والكلمة اختصار للبيض الأنجلو ساكسون البروتستانت وتتربع هذه الجماعة على قمة المجتمع الأمريكى تليها مجموعة البيض الكاثوليك، واليهود البيض ومن المجموعات الثلاث تشكلت «الصورة» الأمريكية وذلك إلى جانب الأقليات من السود والشيكاجو والسكان الأصليين من الهنود الحمر. وقد تعامل المجتمع الأمريكى الأبيض بصفته شعبا قد اختاره الله لينشر حضارته فى القارة، وينتشل أهلها من همجيتهم وبؤسهم على حد قول الصحفى الأمريكى جون سوليفان: «هذه القارة أعطتها لنا العناية الإلهية لكى نطور تجربتنا العظيمة فى الحرية». وباسم العناية الإلهية قام «الواسب» بتصفية السكان الأصليين الذين قال عنهم كريستوفر كولومبس فى رسالته إلى ملك إسبانيا: «إنهم شعب وديع للغاية، وشديدو الحب والسلام حتى أننى أقسم لجلالتكم أنه ليس فى العالم أفضل منهم، إنهم يحبون جيرانهم كما يحبون أنفسهم وحديثهم حلو ورقيق ترفقه ابتسامة». وإلى نفس العالم الجديد وجد الأفريقيون أنفسهم محمولين قسرا لكى يباعوا فيه كعبيد ليشاركوا فى الحلم الأمريكى بصفته «كابوسا» تحولوا من خلاله إلى سلعة يتوخى فى شرائها القوة البدنية التى تضمن مقدرته على العمل الشاق وإنجاب العديد من الأطفال الأقوياء. ولقد تنبه الضمير الجمعى الأمريكى إلى الجرائم التى ارتكبها البيض من خلال (الحدوتة) الواقعية والتى فاقت فى بشاعتها كل خيال، فرصد الأدب فى (كوخ العم توم)ومسلسل الجذور لأليكسى هيلى كيف أن إعلان الاستقلال 1776 الذى وافق عليه الكونجرس «أن البشر جميعا قد خلقوا سواسية وأن الخالق قد وهبهم حق الحياة وحق الحرية..» لم يشمل لا السكان الأصليين ولا الأفرو أمريكيين. وكان جيفرسون الذى صاغ العبارات النارية لإعلان الاستقلال يمتلك العبيد من السود ولا يعتقد أن غير «الواسب» يمكن أن يشاركه فى الحلم الأمريكى. وحتى أبراهام لينكولن نفسه الذى أعلن تحرير العبيد 1863 يقول: «أنا لا أهدف إلى إرساء المساواة الاجتماعية بين البيض والسود لأن هناك فارقا طبيعيا بين الاثنين وأرجح أن هذا الفارق سوف يحول دائما دون أن يحيا الاثنان معا على قدم المساواة». لذا فإن مارتن لوثر كينج شهيد حركة التحرر السوداء يقول فى كتابه بعنوان «لماذا لم نعد نستطيع الانتظار؟» إن مائة عام قد مرت على إعلان لينكولن تحرير العبيد دون أن يحقق السود أى عدالة». وفى عام1968 دفع كينج حياته ثمنا لكى تصبح قضية السود جزءا من هموم الضمير الجمعى الأمريكى. ويتحول وخز الضمير الجمعى الأمريكى إلى احتياج ملح للتكفير عن أبشع الجرائم التى ارتكبها هذا المجتمع فى حق الإنسانية وكان هذا الشعور بالذنب يبحث عن «بروفايل» لبطل «واقعى» تتجسد فيه آمال الشعوب فى صنع تاريخ مشرف تغسل به الخزى الذى لحقها عبر حقبات العنصرية والتمييز الظالم. وقد أكد التاريخ أنه أنجح كاتب سيناريو بتمكنه من اختيار أفضل من يجسد البطل القادم من بين أضعف الفئات الاجتماعية الدنيا والذى ينتمى إلى خلطة من الأديان السماوية بانتمائه إلى أب مسلم وأم مسيحية وإلى قارتين هما أمريكا وأفريقيا ،فإذا كنا لم نشاهد ابتسامة السندريللا وهى تنصب ملكة إلا فى خيال الحدوتة، إلا أننا سعدنا بمشاهدة ابتسامته التى تكون سحرها من ملايين الابتسامات التى علت وجوه المستضعفين فى الأرض.