نكسة أم صدمة للوعي العربي والتاريخ كاظم الموسوي في مثل هذه الأيام ، خلال أيام ستة ، قبل واحد واربعين عاما ، احتلت القوات الإسرائيلية بدعم غربي صريح كامل فلسطين وأراضي عربية أخرى ، ودمرت مؤسسات عسكرية ومدنية عربية كانت محط آمال عربية ، واستشهد الكثير من المقاتلين العرب وتشرد عدد آخر من الفلسطينيين. ماذا يمكن أن تسمى هذه الأحداث ولماذا حصل ما حصل وكيف يمكن النظر إليه؟ وأسئلة تتوالد والأجوبة تتعدد عليها ولكن لابد من الإشارة إلى أن الوضع العربي الرسمي كان مكشوفا وأن الأسلحة العربية ظلت مهملة وغائبة عن مهمتها الرئيسية ، وكان العقل العربي متواكلا على ما سمعه من محسنات البلاغة العربية ، ونائما بهدوء على مقوماتها المعنوية. هذه إشارات توصيفية للواقع والحال وضعت الصراع العربي الإسرائيلي في مقدمة الاهتمام السياسي في العالم العربي وكشفت التضامن والعلاقات العربية العربية والأوروبية والأميركية خصوصا. وقد يكون ما تلاها من تحولات تعبيرا عما جاءت به أيام يونيو الأولى من صدمة لكل هذه القوى البشرية والمادية في العالم العربي والعالم ، وفي الوقت نفسه، شكلت مرحلة فاصلة في التاريخ العربي خصوصا والتاريخ الإنساني عموما. حيث تبين أنها حرب واسعة لم تكن بين الكيان الإسرائيلي والدول العربية وحسب، بل أنها بين معسكرين سادا في الفترة تلك أيضا، بين الرأسمالية والاشتراكية، بين واشنطن وموسكو، على جميع الصعد، الجيو استراتيجية السياسية والاقتصادية والثقافية، وما زالت كذلك رغم كل التغيرات والتطورات والتسميات. ولهذا كانت حدثا خطيرا وهزيمة كبيرة في حسابات تاريخية واستراتيجية وتداعياتها متوازية مع فجاءتها في الوعي والتاريخ. كانت فلسطين والعرب الضحية الأولى فيها ومن ثم حلفاؤهم في المعسكر الاشتراكي ، الذين كانت الحرب تعنيهم أيضا و مباشرة. ووضحت بان الكيان الإسرائيلي قاعدة استراتيجية متقدمة للرأسمالية الغربية والعالمية زرع بتخطيط وتآمر للهيمنة على مقدرات العالم العربي والإسلامي وما وهب من ثروات بشرية وطبيعية تشكل عصب العالم الحساس والموجع. ومن ابرز الأهداف ابتلاع فلسطين التاريخية وتفتيت العالم العربي والإسلامي، وتكريس التخلف والتجزئة والحروب الداخلية والانقسامات المختلفة. وهو ما حدث ويستمر بكل مأساته وكارثيته، التي أوصلت الأمور إلى محاصرة الشعب الفلسطيني، ليس من الاحتلال فقط، وليس من الأعداء وحسب، والتهرب من المسؤوليات وصولا إلى تشويه الأسماء والمفاهيم والمدلولات، فالهزيمة أو النكسة كما اختارها النظام الرسمي تحولت ببراعة إعلانية وإعلامية صارخة إلى انتصارات أو مبررات لاستمرار الحكم والسلطة التابعة، والتنكر من أية قدرات يمكن أن تحقق نصرا حقيقيا. بل وصل الأمر بالنظام الرسمي العربي إلى مهاجمة أية قدرة عربية شعبية للنصر أو تحقيق أي انتصار شعبي ، وطني أو قومي. والمقاومة العربية والإسلامية تحولت إلى إرهاب ومغامرات وصراعات طائفية واثنية وليست جهدا عربيا شعبيا وحركة تحرر مشروعة ومطلوبة تاريخيا وردا على ما حصل في تلك الأيام. رغم كل ذلك، تظل من الأمور المهمة أن النكسة أو الهزيمة صدمت الوعي العربي بنتائجها، وأعادت الحس الشعبي والنخبوي ، خصوصا لمن غرق متوهما بما سبقها إلى صخرة الواقع وإعادة النظر والقراءة والتفكير بروح نقدية وبجرأة. وطورت في الوعي العربي الشعبي والرسمي، سواء على الصعيد الثقافي والسياسي وحتى الاقتصادي والاجتماعي. كان أولها صعود مستوى المراجعات وإعلان الاعترافات وشجب الابتعاد عن الواقع والجماهير الشعبية والمشاركة الأساسية، من جهة، والإصرار على التقدم والتجديد والنهوض التاريخي، من جهة أخرى. وكان الرئيس جمال عبد الناصر، خارجا عن المألوف في الدول العربية الأخرى ، أول المعترفين رسميا بالمسؤولية وتقديمه الاستقالة والعودة إلى الشعب والرد السريع عليه بالرفض وخروج الجماهير إلى الشوارع مطالبة بقيادته والعمل معا وصولا إلى قرارات قمة الخرطوم المشهورة في اللاءات الثلاثة، لا صلح لا اعتراف لا تفاوض، وتحضير الاجواء إلى رفض الواقع والعمل على تغييره ، وهو ما حصل في أكتوبر 1973. إلا أن العدو الاستراتيجي ، بكل أطرافه لم يتفرج ولم يسترخ لما حققه وإنما عمل كعادته مستمرا في العدوان بطرق أخرى ، من أبرزها إدخال القضية إلى ممرات الأممالمتحدة وضغوط السياسة الغربية، خاصة الأميركية ، المعروفة بعدها، بخطوة خطوة وصناعة عمليات التسوية والتوقيع على اتفاقيات تعقد مسارات القضية العربية والفلسطينية خصوصا. على الصعيد الفكري استعاد النقد الذاتي دوره في المراجعات العلنية والتحولات الفكرية في تبني مدارس ومناهج فكرية علمية تحلل الواقع وتستند على قواه في التغيير والبناء للمستقبل. والقيام علنا بجلد الذات والسعي الحثيث إلى تجاوز الهزيمة أو النكسة والوقوف بعزم أمام الصدمة منها والاستعداد إلى المواجهة والمقاومة، ونشر أدب المقاومة وبث روح الأمل في الشعب والتهيئة والمشاركة في التحرير، والعمل على بناء مقومات حركة شعبية مقاومة طويلة الأمد. دفعت القوى المعادية أيضا ما استطاعت في التأثير على الوعي العربي لاسيما في نشر فلسفات وأفكار فسرت توجهاتها بالاستسلام والتنكر لروح المجابهة الجماعية والعمل الكفاحي والمسلح منه، ومن ثم توفير مناخات هزيمة أخرى بأساليب متنوعة، من بينها استخدام وسائل الإعلام ومنظمات سياسية وثقافية تروج لمفاهيم استعمارية والتغلغل في أوساط الشعب والعمل على تفتيتها، من جهة، وصناعة حروب داخلية وأهلية وإقليمية، أي الاستمرار بالمنهج الجيو استراتيجي الاستعماري في الهيمنة والعدوان والغزو والاحتلال والتدمير الشامل على جميع الصعد، وهو الغالب حاليا وبارتهانات رسمية، من جهة ثانية. بعد هذه الفترة الزمنية لابد من كشف الحساب والوثائق والمسؤوليات، ومحاكمة الوقائع والاعتبار من الدروس لخدمة المصالح العربية ، والحفاظ على ثروات الوطن العربي، والتعلم من التجربة الملموسة وأساليب النهوض والتقدم الحضاري في كافة المجالات والمستويات، واستثمار الطاقات والثروات والعلاقات التشاركية العادلة، كيلا تتكرر الصدمة وتعم النكسة!. عن صحيفة الوطن العمانية 9/6/2008