الجزيرة: وفاء في زمن الردة الأمريكية د. الصادق الفقيه يعتبر الوفاء مادّة حيّة؛ فياضة بالسؤال، معمورة بالخيال، وموفورة بالمبادرة. وهو تعبير راق لإرادة خروج الفرد من أنانية ذاته للتواصل الحميم مع الآخر. هكذا كان منذ بدء الخليقة، وهكذا سيبقي رغم طغيان الحياة المادية، وتقلّص ثقافة التضامن والتراحم بين الناس. فتذكية النفس بقيم الوفاء والتحاور معها في شروط الخير هو مظهر حضاري بارز؛ يؤسس للذاكرة الجماعية علي أساس صيرورتها المتحرّكة، المتناغمة مع أصل الوجود. لقد فكرت مليا في قيمة الوفاء والناس في بلادي تحلق بهم فرحة العودة الميمونة لأبناء كانت قد اختطفتهم وحشية الإنحراف المسعور، وأودعتهم وكر الردة الأخلاقية في غوانتنامو، ليمضوا بالقهر المذل أكثر من ست سنوات عجاف، دون جرم ارتكبوه، أو ذنب اقترفوه. غير أنها روح الإنتقام، التي داست، في لحظة الهياج الغضوب، علي كل كسب الإنسان الأخلاقي، ومزقت بعنجهية القوة المنفلتة كل مواثيق حقوق الإنسان، وألغت بالغطرسة كل مناهج العدل، التي كانت تعلمها للعالم. لقد استقبلت الخرطوم سامي الحاج وأخويه عند ساعة ليلة أفصح فجرها عن احتفاء بفيض الفرح الدفاق، وانبثق اجماع رسمي وشعبي رائع، وانبجست عين وفاق وطني ترويه بروح انتصار العودة. ولعل هذه بعض خصيصة هذا الشعب الوفي، إذ أن من بين مجموعة القيم، التي يتميز بها السودانيون، قيمة الالتزام بخلق الوفاء وتعاليمه، لما فيه من سلوكية سامية مكمنها مجاهدة النفس لإبراء الذمة بنكران الذات بالتضامن عند الملمات، والصدق في التعبير الجماعي عن الفرح عندما تهل بالبشريات لحظته. فعند تمحيصنا للحدث، نجد أن صورة الوفاء كانت من أبرز سمات سُلَّمه القيمي. فالخرطوم قد حشدت عواطفها لاستقبال العائدين من ظلمات ظلم الاستكبار، وهذا ديدنها وحق أبنائها عليها. ولكن الموقف المتميز واللافت كان للدوحة والجزيرة، فالدوحة الخيرة امتازت مطالبة قيادتها، المناصرة لحق أبناء السودان في الحرية، بالشجاعة والشهامة والكرم، وبرهنت الجزيرة، من جانبها، علي سمو معني التضحية والفداء واحترام الميثاق والغَيرة الحريصة علي منسوبيها، فما كان الكرم إلا وفاءً للعطاء، وما كانت الشجاعة إلا وفاءً للنصرة، وما كانت التضحية والفداء إلا وفاءً للمضحي له، وما كان احترام الميثاق إلا وفاءً بالعهد والوعد، وما كانت الغيرة إلا وفاءً وحرصا نبيلا علي الأخوة الصادقة. لقد أكد العون المشرف لقطر، في إطلاق سراح المعتقلين، أن السودان ليس وحده في جهد الوفاء لفك أسر أبنائه المحصورين في عتمة غوانتنامو، وضاعفت الجزيرة الأمل بالحاح لم يكل أو ينكسر، حيث تكررت المطالبة بشكل دائم، ولأكثر من ست سنوات متواصلة، وكانت حضورا باهرا عند لحظة الفرج وبارقة اللقاء؛ وضاح خنفر كان هناك يتقدم المستقبلين، لم تحجبه دموع الفرح الدفاقة، التي انهمرت من عينيه، عن رؤية الموقف بجلال تفاصيله، ولم يغب أحمد منصور عن نظر الناس، إذ كان شهادا هو نفسه علي الناس، الذين توزعتهم مشاعر الغبطة بين عودة مصور الجزيرة واخوانه، وبين وفاء الجزيرة العفيف لمن انتبذته يوما لمكان قصي قاده القدر فيه إلي براثن الغدر. لم يمنع جيشان اللحظة المفعمة بالسرور الناس من تأمل الواقعة بأبعادها ودلالاتها، وتخيل دور قطر الفطن، وتمعن حضور الجزيرة المتقدم، وتمييز الموقفين بقدرة عقلية، وبصيرة ثاقبة، وليحسبوا بالقسطاس الحس المرهف، والرصانة في القيم، والحصانة في المُثل، وكأن لهم دراية سابقة بعلم حصاد المشهد، الذي أفصح بكل ما ينطوي عليه من قيم الوفاء في عمق جوهرها النضديد الفريد. لذا، عندما فكروا في مسألة ذات طابع إنساني طرحت عليهم فَرضيةَ الربط بين مفهوم قناة الجزيرة كمنبر للإعلام الحر، فتساءلوا: ما هي اذن قيمة الوفاء، باعتباره نتاجا لسلوك وممارسة حرّة ّواعية مسؤولة للجهاز الإعلامي في الحياة العامّة؟ وربما تكون في الإجابة علي هذا السؤال علاقة شرطية سببية ضرورية ممكنة، يتفاوت الناس في إدراكها، وتجتهد المؤسسات الإعلامية في تحقيقها، ولكنها هي التي حددت أنساق هذه اللحظة المرصودة بأعين الناس في مطار الخرطوم، وفي مستشفي الأمل، وجسّدت مسار المناداة التي لم تنقطع بضرورة اطلاق من آمنت ببراءتهم، فعرفت بالصدق العلاقة بين فكرة الوعي بالإعلام الفاعل بالإرادة والعقل، وترجمت بالقدوة الفعل المؤسّس علي أخلاقية التواصل، بل هي شرحت لحظة الإفصاح بالتبني الموضوعي للقضية. بيد أن قيمة الوفاء، التي أثبتها شهود قيادة قناة الجزيرة ومشاركتها في الاستقبال، هي التي شدّت الناس إليها أكثر، وصقلتهم بإرادة المبادرة والإصرار العنيد علي المناصرة. وهي تتغلب في ذلك علي رواسب الأنانية المهنية، وتتحدّي الجحود، وتحفز التواصل، وهي ترفع بذلك قيمة القيم، التي هي الوفاء، وتربط نظام الفعل بالعقل، ونظام العطاء بالعدل. ولأن طبيعة الحياة البشرية تفرض علي الإنسان أن يتبادل الثقة مع الآخرين، فالجزيرة وضعت المثال مجسدا برموزها القائدة أمام الناس، فقدروها وأكبروهم. وعندما فكرت في مدخل أدلف به إلي تصوير موضوعي للحدث، وجدت في التزام الجزيرة ووفائها ومسارعتها لتقدم المستقبلين عند هبوط طائرة العائدين، ملحمة تستحق التسجيل. إن الثقة المتبادلة بين الجزيرة ومنسوبيها هي الأساس المتين، الذي شيد عليه صرح العلاقات الإنسانية، والذي أوجد هذا المشهد ورفع بنيان هذه الملحمة، وبدون هذا الأساس، فإن البنيان بأسره معرض للسقوط. فما كان من بد أن يكون التركيز في هذا المقال علي قيمة الوفاء المضافة، التي مثلتها الجزيرة، وبذل ثناء مستحق لمؤسسة وقفت نفسها لخدمة هدف أينع زرعه، وحان قطافه، وجنينا بالعرفان ثمرة خيره. وقد تحدث عن سامي الحاج كثيرون ممن أجادوا العرض وأوفوا الغرض، وتحدثت عنه مرارا، غير أني في كل مرة كنت أجد الجزيرة حاضرة علي الخط، وحتي عندما ذهبت يوم وصوله إلي الإذاعة السودانية بأمدرمان للمشاركة في حوار عن المناسبة، وجدت الأستاذ أحمد الشيخ، رئيس تحرير أخبار الجزيرة، معنا عبر الهاتف يهتف بكل مشاعر الزمالة، وعاطفة التضامن، ويتدفق حديثه علي مسامعنا بموضوعية يلونها وفاء خاص، وذاتية لا يستطيع أن يخفي حضور سامي الحاج فيها، وكذلك قد عرفته في أحاديث أخر. فهو شيخ المؤسسة، التي يقودها وضاح، ويرسم لها أحمد منصور الحدود بلا حدود. عن صحيفة الراية القطرية 7/5/2008