مساران تفاوضيان لبلد واحد حسن عصفور في الاجتماع قبل الأخير لحكومة إسرائيل، فاجأ رئيس المخابرات الإسرائيلية ( الشاباك ) الحضور بإعلانه، أنه يشتم رائحة مفاوضات تجري بين حكومة إسرائيل وحركة حماس، وأنه يلمس ذلك من خلال التقارير التي يحصل عليها، وبعض المعلومات المتوفرة لديه. إعلان رئيس المخابرات الإسرائيلية ذلك ليس بالخبر، لأن الكثير من المعلومات متوفرة منذ زمن عن هذه الاتصالات بعيداً عن شكلها مباشرة أو غير مباشرة، بل إن المعلومات التي تم نشرها منذ فترة زمنية، تشير الى أن هناك اتصالات بين الجهاز المدني الحمساوي في القطاع وبعض ممثلي الإدارة المدنية الإسرائيلية من خلال أشكال متباينة بينهما، منها بعض تجار حماس العاملين مع القطاع الخاص الإسرائيلي. ولكن الخبر الحقيقي هو: ما هي الدوافع التي تجبر رئيس مخابرات دولة بالإعلان، عن اتصالات تفاوضية بهذا الشكل العلني والاستفزازي أيضاً لرئيس الحكومة، وهو يدرك جيداً أن هناك من سينقله لوسائل الإعلام الإسرائيلية، في ظل صراع "الديوك" داخل الحكومة وحزبيها العمل وكاديما، خاصة وأن مسيرة الحكومة مترنحة بشدة هذه الأيام. لا تزال التكهنات هي السائدة خلف أقوال ديسكين تلك، وهل هي نتاج لموقف سياسي يعكس ما هو غير معتاد في العمل داخل المؤسسة الامنية، أم لها بعد أمني في إطار "الشروط" الأمنية المفروضة على التعامل مع حماس كما صاغتها الحكومة ذاتها في وقت سابق. إلا أن الأمر لا يتوقف عند ما أعلنه ديسكين حول الاحساس وبعض ما لديه من معلومات، بل وصل إلى نشر تقارير إعلامية عن جولة قام بها د.احمد يوسف ( صاحب الوثيقة الشهيرة) في أوروبا، والاتصال مجدداً مع عدد من الأكاديميين الإسرائيليين لإعادة صياغة "الوثيقة" وفقاً للتطورات الأخيرة، وخاصة الانقلاب الحمساوي والسيطرة على قطاع غزة، وإنشاء " كيان سياسي" منفصل عن الشرعية الوطنية الفلسطينية وسبل التوافق الاسرائيلي الحمساوي تحت غطاء "التهدئة"، خاصة وأن جوهر الوثيقة السابقة يعتمد أساساًً على مفهوم الحلول الانتقالية والجزئية، آخذة الوقائع التي تم إنشاؤها في السياق الاحتلالي، تحت غطاء " الهدنة طويلة الأمد" وليس الدائم، وهي النظرية السياسية لحركة حماس التي تعمل وفقها منذ فترة زمنية. وعليه، فإن " الحل الانتقالي" مهما كان ناقصاً، فانه لا يمثل خطرا ما دام لم يصل بعد إلى مفهوم "الحل الدائم"، وهذه النظرية تستهوي إسرائيل تماما، حتى مع ما تعلنه حماس أن هدفها الأخير هو تحرير كل فلسطين ولكنها تقبل التعايش بدولة مؤقتة إلى جانب إسرائيل. واستهواء إسرائيل فتح باب التفاوض مع حركة حماس، عبر قطر وتركيا وبعض أوروبا، اعتماداً على إدراك مدى الحاجة التي تبحث عنها حركة حماس من أجل ترسيخ "كيانها" الخاص في قطاع غزة لأنه بات الهدف الاستراتيجي ليس لحماس وحدها، بل لمجمل حركات "الإسلام السياسي" وخاصة حركات الإخوان المسلمين، حيث يعتبرون سقوط تجربة حماس سقوطاً تاريخياً لمفاهيم الحكم عند هذه الحركات، وهو ما سبق ان اعلنه اكثر من رمز من رموزهم. لذلك، فان فتح مسار تفاوضي سياسي خاص بين حماس وإسرائيل يصبح أداة من أدوات الفعل الناظم للحفاظ على الكيان القائم الآن في القطاع، مع وجود أطراف تعمل بكل السبل من اجل تسهيل كل العقبات أمامه، ولا شك أن الدور الأساسي هنا هو الدور القطري الذي يتحمل المسؤولية الرئيسية في فتح ذلك المسار التفاوضي. وإسرائيل تعمل من جانبها كذلك على الاستفادة القصوى من الرغبة الحمساوية هذه، لفرض مفهوم جديد لوثيقة يوسف الشهيرة، بل إنها لا تكتفي بذلك وحده، فهي تستخدم مسارها التفاوضي مع حماس سواء السياسي منه أو الأمني للتهرب من الإيفاء بالالتزامات السياسية والأمنية مع الشرعية الفلسطينية، سواء ما يتعلق بتنفيذ التزامات جاءت في "خارطة الطريق" وما يتعلق بوقف الأنشطة الاستيطانية وفك الحصار الداخلي ورفع الحواجز كافة والعودة للوضع الذي كان عليه يوم 28/9/2000، أو السير الإيجابي في مفاوضات "الحل الدائم"، والتي بدأت بعد مؤتمر آنا بوليس منذ ما يزيد على الستة أشهر، دون ان تحقق تقدماً جدياً، بل بالعكس هو ما يتسرب عنها، والمعلومات تشير الى أن الموقف الاميركي في الزيارة الأخيرة للرئيس أبو مازن لواشنطن، قدم عرضاً يمس بشكل جوهري مضمون "الحل الدائم" حول الدولة الفلسطينية أرضاً ووحدة ترابية، إلى جانب مساسه بشكل جوهري بالمكانة المقدسة للحرم القدسي الشريف والبلدة القديمة، وهو الأمر الذي شكل ردة كاملة عن كل المشاريع الأميركية السابقة وآخرها وثيقة كلينتون، الأمر الذي كان سبباً جوهرياً ليس فقط في إعلان الرئيس عن خيبة أمله من المحادثات، وفقدانه الأمل للمرة الأولى منذ توليه الرئاسة حول جدوى التفاوض0 إسرائيل نجحت بامتياز ليس بالتلاعب بين المسارين الفلسطيني والسوري فقط، بل إنها أضافت لهما نجاحاً آخر بأن فتحت مسارين للتفاوض مع الفلسطينيين ليس فقط للتلاعب بهما، وإنما للتخلص منهما. حماس تعيش نشوة التفاوض باعتبارها حققت مكسباً سياسياً خاصاً بها، كسرت شروطاً وقيوداً دون أن تدرك أنّ مثل هذه الثغرات مقبولة في إطار الخلاص الأكبر من الوطن الأم والمشروع الوطني العام. وهنا نعود مجدداً للسؤال الحائر منذ زمن: ألم يحن الوقت بعد للشرعية الفلسطينية أن تعيد صياغة أوراقها للمعركة الأساسية: الدفاع عن الوطن قبل الضياع الجديد؟ عن صحيفة الايام الفلسطينية 6/5/2008