في مواجهة تحدي الأمن الغذائي د. طه عبد العليم في ظل تهديد انكشاف غذائي منذر بالتفاقم والمخاطر لا بديل لمصر سوي أن تواجه بأقصي درجات الجدية تحدي حماية الأمن الغذائي, أي تحقيق أقصي قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي للوطن من السلع الغذائية الأساسية, وتأمين حصول المواطن علي احتياجاته الضرورية من هذه السلع. وبدرجة حاسمة الأهمية, تتحدد قدرة مصر علي مجابهة التحدي بمستوي أداء القطاع الزراعي وفلسفة إدارة التنمية الاقتصادية, وقدرة صانعي القرار وشركاء التنمية علي خفض أبعاد ومخاطر فجوة الغذاء وتعظيم فرص وتقليص قيود التنمية الزراعية. ولا يمكن إنكار القيد الموضوعي علي تحقيق الأمن الغذائي في مصر, وهو تراجع متوسط نصيب الفرد من المساحة المزروعة والمحصولية, نتيجة زيادة السكان بمعدل يفوق جهود زيادة مساحة وانتاجية الأرض الزراعية. فقد ترتب علي هذا القيد تراجع نسب الاكتفاء الذاتي من القمح ودقيقه من69.8% في عام1960 إلي41.6% في عام1974 ثم إلي24.8% في عام1980! وهو ما سجله جمال حمدان, وأوردته بمقالي السابق' في أصول مسألة الأمن الغذائي'. لكن القيد المذكور وغيره ليس مانعا يحول دون استهداف تقليص فجوة الغذاء, وهو ما تحقق الكثير منه قبل غلبة دعوة' اقتصاد السوق الحرة'! وتكشف قراءة إنجازات التنمية الزراعية في مصر الحقائق والمؤشرات التالية: أولا: أن جوهر الاقتصاد السياسي للأمن الغذائي المصري, يكمن في إعلان الرئيس مبارك أن' من لا يملك قوت يومه لا يملك حرية قراره'. وفي هذا السياق, انتهجت الحكومة سياسة للأمن الغذائي, ترتب عليها ارتفاع نسبة الاكتفاء الذاتي للقمح من نحو25 في المائة في أوائل الثمانينيات إلي42.8 في المائة في النصف الأول من التسعينيات ثم إلي55 في المائة في سنة.2000 بل وسعت الحكومة إلي رفع النسبة بخلط دقيق القمح بدقيق الذرة. والواقع أن حالة الأمن الغذائي القومي في مصر قد تحسنت في التسعينيات. ويسجل الدكتور جمال صيام, في دراسة رصينة أعدها بتكليف من منظمة الأغذية والزراعة( الفاو), ومستندا إلي بيانات موثقة دولية ومحلية, أن نسبة الاكتفاء الذاتي من الحبوب في مصر قد ارتفعت من8,61 في المائة في الفترة1990-1994, إلي5,66 في المائة في الفترة1995-.2000 وارتبط هذا الإنجاز الهام بتحسن كبير في غلة أو انتاجية الفدان من محاصيل الحبوب, لا سيما القمح, بفضل إدخال أصناف جديدة. وتحققت معدلات عالية لنمو إنتاجية هذه المحاصيل خلال الفترة1985-1994 وترتب علي هذا ارتفاع نسبة الأغذية المنتجة محليا إلي إجمالي المتاح من ا لأغذية من6,72 في المائة إلي78 في المائة. كما تحسنت حالة الامن الغذائي الإنساني في مصر, حيث ارتفع انتاج الأغذية بمعدل بلغ نحو ضعف معدل الزيادة السكانية وارتفع متوسط نصيب الفرد من إنتاج الأغذية. ورغم زيادة أسعار الأغذية ارتفع متوسط نصيب الفرد من السعرات الحرارية, بل وصل لأعلي من المستوي الأمثل المطلوب. ومع التحسن الطفيف في نصيب الفرد من البروتين بقيت مشكلة غذاء المصريين نوعية وليست كمية! وثانيا: أن تقرير عن التنمية في العالم لعام2008, الصادر عن البنك الدولي والذي تغطي بياناته133 دولة, يسجل انجازات هامة للتنمية الزراعية في مصر. فنقرأ فيه: أن متوسط نمو نصيب الفرد من إنتاج الحبوب بلغ نحو3.5% سنويا في مصر في الفترة1990-2005, وهو ما زاد عن معدل نمو السكان. ولم يحقق معدلات نمو أعلي من مصر سوي سبع دول, وبلغ متوسط إنتاج' الهكتار' من الحبوب في مصر ثالث أعلي معدل في العالم, وشغلت مصر المرتبة36 من حيث معدل النمو السنوي لإنتاج الحبوب لكل هكتار. وأن مصر, التي تكاد لا تعرف الرعي وتعتمد علي التربية وتأتي في المرتبة77 من حيث متوسط نصيب الفرد من إنتاج اللحوم, شغلت المرتبة18 من حيث معدل نمو إنتاج اللحوم للفرد. كما شغلت مصر المرتبة23 في متوسط نصيب الفرد من إنتاج الخضراوات والفاكهة والمرتبة16 من حيث معدل نمو إنتاجها. وقد زاد متوسط نصيب الفرد من الإنتاج الإجمالي للغذاء في مصر بين عامي1990 و2004 بنحو2.1% سنويا وشغلت المرتبة14 وفق هذا المؤشر, مع ملاحظة أن إنتاج الغذاء شهد معدلات نمو سلبية في ذات الفترة في60 دولة, أي ما يقرب من نصف الدول التي يغطيها تقرير البنك الدولي. وارتبط نمو إنتاج وانتاجية المحاصيل الغذائية بارتفاع متوسط معدل استخدام الأسمدة الأوزتية في مصر, حيث شغلت المرتبة الثانية في العالم وفق المؤشر المذكور. والأهم, هو ما يسجله التقرير من التراجع الهائل في اعتماد مصر علي المعونة الغذائية, حيث أتت في المرتبة60 من حيث كمية المساعدات الغذائية بين2003 و2005 بين74 دولة تلقت هذه المساعدات. وتجدر الإشارة هنا إلي ما أورده الدكتور صيام من أن مصر, التي اعتادت علي تلقي كميات كبيرة نسبيا من المعونة الغذائية, انخفض ما نالته من معونات من القمح والدقيق من مليوني طن كانت تمثل نحو20 في المائة من مجموع الاستهلاك في سنة1990 إلي20 ألف طن فقط في سنة1999 لم تتعد2,0 في المائة فقط من مجموع الاستهلاك في سنة.2000 لكن قراءة تحديات التنمية الزراعية في مصر تكشف بدورها الحقائق والمؤشرات التالية. أولا: ما أورده تقرير البنك الدولي المذكور من أن صافي واردات مصر من الحبوب يضعها في المرتبة السابعة عالميا من حيث قيمة هذه الواردات, وفي المرتبة15 من حيث قيمة العجز الزراعي. وعلي حين لم يتعد متوسط نصيب الفرد من إنتاج الحبوب في مصر296 كيلوجراما, بلغ هذا المتوسط941 كيلوجراما في الأرجنتين و905 كيلوجرامات في كازاخستان و1925 كيلوجراما في استراليا.. إلخ, وبينما لم يتعد متوسط نصيب المشتغل الزراعي من القيمة المضافة في الزراعة497 دولارا في مصر, بلغ هذا المتوسط21919 دولارا في إستراليا, و23396 في نيوزيلاندا و25639 في فرنسا.. إلخ, وذلك خلال الفترة بين عامي2003 و.2005 ورغم تعدد أسباب كل ما سبق وغيره من تحديات الأمن الغذائي والتنمية الزراعية, فإن بيانات التقرير المذكور يتبين منها عواقب انخفاض معدل الإنفاق الحكومي علي البحث والتطوير في الزراعة, الذي لم يتجاوز نحو0.72% من القيمة المضافة للزراعة في مصر خلال عام2000, مقابل3.62% في اليابان و2.65% في الولاياتالمتحدة, بل وبلغ3.04% في جنوب أفريقيا و2.68% في كينيا! أضف إلي هذا, أن نسبة الانفاق الحكومي في قطاع الزراعة لم تتعد11.4% من القيمة المضافة الزراعية في مصر في عام2004, مقابل76.8% في كوريا و36.6% في البرازيل! وثانيا: أن سلسلة البيانات الأساسية التي أصدرتها وزارة التنمية الاقتصادية وتغطي الفترة1982/81-2007/2006 ترصد تراجعا حادا في نسبة الاستخدامات الاستثمارية المنفذة في الزراعة الي إجمالي الاستخدامات الاستثمارية المنفذة خلال الخطة الخمسية الأخيرة, وهو اتجاه مضاد لارتفاعها في الخطط السابقة! فقد ارتفعت حصة الزراعة في الاستثمارات من5.6% في الخطة الأولي1983/82-1987/86, إلي7.4% في الخطة الثانية وإلي7.7% في الخطة الثالثة, ثم13.2% في الخطة الرابعة, لكنها هبطت إلي7.2% في خطة2002-2007! وترتب علي انخفاض الاستثمار في الزراعة تراجع مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي من حوالي18.8% في عام1982/81 إلي13.3% في2006/2005, وقدر أن تواصل الانخفاض إلي نحو12.9% في2006/.2007 وأما تفسير هذا فنتعرف عليه جزئيا من حقيقة أن نصيب الزراعة من إجمالي الاستخدامات الاستثمارية المنفذة خلال25 عاما لم يتعد8.8%, بينما بلغ نصيب الإسكان والملكية العقارية9.8%. وإذا كانت مؤشرات' وزارة التنمية الاقتصادية' تكشف أثر فلسفة' الاقتصاد الحر' علي عدم كفاءة تخصيص الموارد, فإن دراسة' منظمة الأغذية والزراعة' تبين أثرها علي عدم عدالة توزيع الدخل في ظلها, إذ توضح أن حالة الأمن الغذائي وإن تحسنت من حيث' توافر الأغذية', فإنها قد تدهورت من حيث' القدرة علي الحصول'علي الغذاء, بسبب سياسات' الاقتصاد الكلي' وسياسات توزيع الدخل, التي لم تحافظ علي مصالح محدودي الدخل! وهو ما يستحق إطلالة لاحقة. عن صحيفة الاهرام المصرية 20/4/2008