بعد خراب البصرة مصطفى زين عشية الحرب على العراق استخرج البريطانيون من أرشيفهم الاستعماري نظرية قديمة. جربوها في افريقيا وفي العراق ذاته. تقوم هذه النظرية على ضمان ولاء شيخ العشيرة وشيخ الدين كي يسودوا. الأول يقمع الشعب باسم العرف الاجتماعي. والثاني يقمعه باسم القوة الإلهية. لكن خراب البصرة مرة أخرى أثبت خطأ هذه النظرية. ها هي قواتهم محاصرة فيها «مثلما يحاصر الهنود الحمر الكاوبوي»، على ما قال أحد خبراء الاستخبارات الأميركية ( «واشنطن بوست»). لا رجل الدين دان لهم الا بما يخدم مصالح طائفته ولا شيخ القبيلة استطاع قمع عشيرته. والواقع أن قصة النجاح البريطاني في البصرة التي حسدهم عليها الأميركيون كانت موقتة، استخدمت ورقة للاسراع بالانسحاب. وتؤكد الوقائع أنها كانت مزيفة أيضاً، فالجيش العراقي الجديد ليس مستعداً بعد لتسلم الأمن في هذه المدينة الجنوبية، وقوات الأمن فيها مكونة من أحزاب دينية تستخدم الغطاء الرسمي لممارسة أبشع أنواع التسلط والفساد. وسلطة عصابات تهريب النفط فيها تفوق سلطة الدولة. ولكل منها ميليشياتها وشيخها بالمعنى الديني والعشائري للكلمة. لكن ليس هذا وحده ما دعا رئيس الوزراء نوري المالكي الى شن حملة على البصرة و «جيش المهدي». وراء الحملة صراع شيعي - شيعي على السلطة في المدينة، وفي بغداد أيضاً، بدأ منذ مقتل آية الله الخوئي في النجف، في الأيام الأولى للاحتلال، ودخول «الفاتحين» القادمين من الخارج اليها، من دون أن ننسى الصراع القديم بين آل الحكيم وآل الصدر ودور ايران في هذا الصراع الذي يمتد الى المرجعية. والخلاف بين الطرفين (بين زعيم التيار الشعبي مقتدى الصدر، وزعيم المجلس الأعلى عبدالعزيز الحكيم) يتجاوز الخوات والتهريب والعصابات الى صلب النظرة الى العراق الجديد. الحكيم الذي يسيطر حزبه على مجالس المحافظات في الجنوب يسعى منذ اليوم الأول للاحتلال الى عراق فيديرالي (كونفيديرالي اذا أخذنا التجربة الكردية في الشمال ونصوص الدستور في الاعتبار) فيما الصدر يرفض هذه الفكرة، معتمداً في رفضه على شعبيته وشعبوية طروحاته التوحيدية، وطبعاً على «جيش المهدي» الذي أصبح «أخطر» من تنظيم «القاعدة»، على ما يقول رئيس الوزراء نوري المالكي. أين موقع رئيس الوزراء من هذا الصراع؟ كل ما يهم المالكي الآن هو اثبات قدرته على ضبط الأوضاع، أو ضبط الشيعة تحديداً، بعدما ضبط الأميركيون السنّة ونظموهم في «مجالس صحوة» عسكرية كي يلتحقوا بالسلطة بهاتين الصفتين (الطائفية والميليشياوية) تمهيداً للفيديرالية. وحجته في ذلك أنه يوحد الشيعة كي يبقى الحكم في يدهم ويكونوا الطرف الأقوى في المعادلة المقبلة، حين يقرر الأميركيون الانسحاب. لذلك حاول التفريق بين الصدر وتياره، من جهة، و «الخارجين عن القانون» من جهة أخرى. ولم يشر بكلمة مسيئة واحدة الى «جيش المهدي» أو التيار. لكن دونه وتوحيد الطائفة مصاعب كثيرة فالصراع داخلها على النفوذ يفوق صراعها ضد الآخرين، او الصراع ضد المحتل الذي اختفت صفته هذه من القاموس (عدا قاموس الصدر). أثبتت ذلك معركة البصرة الأخيرة التي توقفت بنداء من الصدر. ولم يحسمها قائدها العسكري، اي المالكي، ولم يتقدم بأي مشروع لتسوية سياسية تنقذها وتحول دون خرابها مرة أخرى. ما جرى في المنفذ الوحيد للعراق على البحر «منازلة اولى في سلسلة منازلات في بغداد ومدن أخرى»، قال المالكي. أي أن الصراعات الشيعية - الشيعية قد تتحول الى حرب أهلية جديدة كي ينبثق العراق الفيديرالي الأميركي الديموقراطي. هزم البريطانيون في البصرة لكن بعد خرابها، ولم يربح العراقيون سوى الإمعان في التقسيم الطائفي والمذهبي وحروب أهلية لا تنتهي. عن صحيفة الحياة 5/4/2008