إشكالية المجتمع المدني المتجددة في الخطاب العربي المعاصر كرم الحلو تستحوذ إشكالية المجتمع المدني منذ ثمانينيات القرن الماضي الى الآن، على جانب اساسي ومركزي من الخطاب السياسي العربي المعاصر الذي وجد في «المجتمع المدني» مخرجاً من المأزق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي حشرت فيه الانظمة العربية، سواء تلك القائمة على نظام الحزب الواحد أم دولة الملكيات المطلقة والرئاسة القبلية والفردية. فقد طرح المفهوم على خلفية الانتقال الى مجتمع الحداثة، مجتمع الدولة العصرية المؤسساتية على انقاض المجتمعات القبلية والعسكرية والتسلطية، الا ان طرحه جاء ملتبساً وإشكالياً ومتناقضاً، اذ تعددت الرؤى والتصورات بشأنه، ان لجهة نشأته التاريخية وأصوله ومنطلقاته الفلسفية، او لجهة معناه ومضمونه وامتداداته الاجتماعية والتاريخية. أما وجه الاشكال والتناقض فيبقى إن في رد المفهوم الى التراث العربي الاسلامي او في العلاقة الملتبسة والاشكالية إن بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي او بين المجتمع المدني والدولة، الامر الذي تجلى في الابحاث والدراسات التي تمحورت حول المجتمع المدني منذ تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم. ثمة اتفاق بين الباحثين، على تباين واختلاف توجهاتهم الايديولوجية، على ان المجتمع المدني هو في جوهره «مجتمع مديني» في مقابل المجتمع البدوي القبلي، ففي رأي محمد عابد الجابري في «نقد الحاجة الى الاصلاح» 2005 ان المجتمع المدني في اللغة العربية يحيل الى الاجتماع «الحضري» في مقابل البدوي، وبما ان القبيلة هي المكوّن الاساسي في البادية العربية ف«المجتمع المدني» سيصبح المقابل المختلف الى حد التضاد ل«المجتمع القبلي». بينما المجتمع المدني في الفكر الاوروبي يعني مجتمعا متحضراً لا سلطة فيه للكنيسة ولا للعسكر. وقد جاء هذا المفهوم بمعانيه هذه في سياق تطورات اقتصادية وسياسية وعلمية واجتماعية شهدتها اوروبا في القرن الثاني عشر والتاسع عشر، وتم بنتيجتها الانتقال من المجتمع الزراعي الى المجتمع الصناعي وكل ما رافقه من تفكك الأسرة وهيمنة المصلحة الخاصة وتعزز الفردية. وعلى هذا يكون المجتمع المدني في رأي الجابري هو المجتمع الحديث الذي اتخذ شكله مع التحوّل الديموقراطي المرتبط في جوهره بمبدأ السيادة للشعب الذي هو مضمون «العقد الاجتماعي» بين الأفراد وفقاً للارادة هؤلاء ومصالحهم. هذا التناقض الاشكالي في الرؤية الى المجتمع المدني ممتد الى الان. ففي «جدليات الشورى والديموقراطية» 2007 اعتبر أحمد الموصللي ان الأسس النصية المستمدة من القرآن والسنة لا تتعارض مع اشكال الحكم الديموقراطي والمجتمعات المدنية التعددية ومناهج حقوق الإنسان. ان الجدل المستمر حتى الآن بصدد المجتمع المدني، انما يعبر عن اعاقة قديمة ومتجددة في استيعاب مقولات الحداثة ومفاهيمها، وتحولها بالتالي الى مكون اصيل من مكونات المجتمع العربي الثقافية والفكرية والسياسية، حتى ان باقر النجار رأى انه على الرغم من الحديث العربي المتزايد عن مجتمع مدني عربي، نادراً ما نجد مجتمعا مدنيا في المنطقة العربية، قادراً ومؤثراً كما هو الامر في بعض الدول الاوروبية او في بعض اقطار شرق آسيا وفي اميركا اللاتينية. وفي رأينا ان سبب هذا الاخفاق المتمادي عائد الى إغفال الخطاب السياسي العربي الأسس الحداثية للمجتمع المدني، والاعاقات البنيوية في المجتمع والدولة العربيين التي اخرت قيامه، واحبطت تقدمه في الاتجاه الذي اندفع فيه عالمنا المعاصر. فالخطاب السياسي العربي اخفق اولا في استيعاب مقولات الفرد والحرية الفردية والمساواة السياسية والاجتماعية والاعتراف بالآخر والتعددية، كما تبلورت في الفكر العلماني الحداثي، وحاول رد هذه المقولات الى التراث العربي الاسلامي، وتأصيلها في فضاء مختلف لا يمت إليها بصلة وغير ممكن التفكير فيها من داخله. وقد اخفق ثانيا في التصدي للعوامل التكوينية، الاثنية والطائفية والقبلية والعشائرية القائمة في المجتمع العربي، والتي تسللت الى المجتمعات المدينية بشكل مكثف ومتصاعد منذ خمسينيات القرن الماضي حيث ارتفع عدد سكان الحضر في بعض الاقطار العربية ارتفاعا كبيرا وصل الى 77 في المئة في العراق والى 90 في المئة في لبنان، ما ادى الى هيمنة العقل الريفي القبلي بأعرافه وانماطه السلوكية وتقاليده البدوية المتخلفة داخل المجتمعات المدينية التي كان يجب ان تكون القاعدة لنشوء مجتمعات مدنية عربية بالمعنى الحداثي للكلمة. وقد اخفق الخطاب السياسي العربي ثالثا في مواجهة الدولة التسلطية العربية التي حاصرت المجتمع بممارساتها الفوقية، واجهضت امكانيات قيام مجتمع مدني مستقل، باحلالها السياسة محل الاقتصاد والثقافة والممارسة الاجتماعية، وتقديمها الولاء الشخصي على العلاقات المواطنية، مكرّسة بذلك، العقل الرعوي الاستبدادي على حساب التوجه الشعبي الديموقراطي. فكان ان اخليت الساحة امام العقل الاصولي الرافض لمبدأ الاجتماع المدني من اساسه، والمهدد برد المجتمعات العربية الى القرون الوسطى. هذه الاخفاقات يجب الا يفهم منها اليأس من نهوض المجتمع المدني في العالم العربي، بل التوجه الى قراءة جديدة لعوامل الاخفاق، والاستفادة من عوامل ومؤشرات ايجابية يمكن ان تمهد لقيام هذا المجتمع. ومنها فشل الدولة التسلطية العربية، ان في التنمية او في التحرير، وعجز البنى التقليدية عن مواجهة تحديات التطور الثورية في عالمنا المعاصر، ووصول الخطاب الاصولي الى مأزق حقيقي لم يعد بالإمكان معه، الاجابة عن الاشكاليات الكبرى التي يطرحها عقل الحداثة او ما بعد الحداثة. أخذاً في الاعتبار هذه العوامل يمكن الأمل بتقدم ذي شأن على صعيد المجتمع المدني في العالم العربي. عن صحيفة السفير اللبنانية 27/3/2008