باريس تعيش اللحظة الاسرائيلية د.أحمد القديدي في انتظار الخطاب الذي سيلقيه الرئيس ساركوزي في الكنيست بالقدس بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس دولة اسرائيل في الثامن من مايو القادم حين يكون ضيفا على تل أبيب في زيارة دولة تم وصفها في وزارتي الخارجية الفرنسية والاسرائيلية بالتاريخية، في انتظار تلك الزيارة فإن باريس تعيش لحظة اسرائيلية بالزيارة التي أداها شيمون بيريز رئيس اسرائيل يومي 11 و 12 مارس ودشن خلالها مع وزيرة الثقافة الفرنسية المعرض الدولي للكتاب وألقى خطابا في المنظمات اليهودية بقصر المؤتمرات بفندق كونكورد لافايات وتعرض خلاله لمواجهة مع المتطرفين الصهاينة المزايدين عليه في التطرف والذين هتفوا بخيانته وقاطعوا خطابه. ولكن الحدث الرمزي الراهن في اللحظة الاسرائيلية لباريس هو تكريس المعرض الدولي للكتاب هذه السنة للاحتفاء بالكتاب والأدباء الاسرائيليين وتكريم اللغة العبرية، وهو ما يتواكب مع احتفال الدولة الاسرائيلية بالذكرى الستين لميلادها في الأيام التي يطلق عليها أشقاؤنا الفلسطينيون نعت النكبة لأنهم فقدوا خلالها وطنهم وتم استبدال شعب أصيل بشعب دخيل لأول مرة في تاريخ البشرية وبإرادة القوى الأمبريالية الغربية التي اضطهدت اليهود في كل مراحل ماضيها وأرادت التكفير عن جرائمها بإهداء فلسطين لزعماء الشعب اليهودي الموزع على بلدان العالم! العلاقات الجديدة بين فرنسا واسرائيل مع المنعرج الساركوزي ليست جديدة تماما لأنها حافظت حتى مع الرؤساء الفرنسيين الديجوليين على ثوابت مصلحية مستقرة لا تتغير وانما يضع عليها شيراك مثلا بعض المساحيق الملونة الذكية ليؤكد مواصلة السياسة العربية لباريس. وصدر هذه الأيام كتاب الخبير الفرنسي في الشأن الشرق أوسطي مراسل التلفزيون الحكومي في القدس (شارل أندرلان) بعنوان ( بالنار والدم: تاريخ تأسيس دولة اسرائيل) ليؤكد أن فرنسا هي التي سلحت عصابات الأرغون وشترن حين كانت تفجر فندق الملك داود وتغتال مبعوث منظمة الأممالمتحدة الكونت برنادوت وذلك أثناء حكومة جورج بيدو بباريس عام 1947. وهذا ما يفسر كلمة شيمون بيريز عند وصوله مطار باريس حين قال: ليست هناك أمة من الأمم في الدنيا ساعدت اسرائيل وناصرتها مثل فرنسا( مقابلة مع صحيفة لو فيجارو 10 مارس) ثم ان فرنسا هي التي كانت وراء التسلح النووي الاسرائيلي عام 1957 وشاركت في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كما رواه لي شخصيا مهندس ذلك العدوان وزير خارجية فرنسا الأسبق كريستيان بينو. يقول المحلل السياسي الفرنسي (ألن بارلويه): بأن فرنسا حين تتصالح مع اسرائيل فإنها تهدف إلى إعادة ثقلها المفقود في التأثير على مسار السلام في الشرق الأوسط لأنها تحظى بمنزلة الدولة التي لا تعادي الشعوب العربية وتحتفظ بثقة اسرائيل. هذا الرأي للمحلل الفرنسي يهمل الأصل في هذه العلاقات وهو التغيير الذي أحدثه الرئيس ساركوزي في الدبلوماسية الفرنسية حين انحاز أكثر للرؤية البوشية للقضية (أي رؤية الادارة الأميركية الراهنة لا السياسة الأميركية عموما) وهذه الرؤية البوشية أو المحافظة الجديدة هي التصور الانجيلي المغلوط لأزمة الشرق الأوسط من منظور التعصب الاسرائيلي الأسطوري لا من منظور التوازن الدولي الضروري للأمن العالمي! والدليل على إفلاس هذه التصورات الأميركية هو تعاقب مخططات السلام الأميركي للقضية الفلسطينية بدءا من أوسلو إلى أنابوليس مرورا بالموؤودة خارطة الطريق. وقد كان المحلل السياسي الفرنسي المعروف (دونيس سافير) مدير ورئيس تحرير مجلة (بوليتيس) منصفا حين قال صباح السبت الماضي على أمواج اذاعة (راديو فرانس انترناسيونال) بأن باريس تنظر إلى نتائج المأساة وليس إلى جذورها الحقيقية حين يصدر بيان الخارجية الفرنسية بعد مجزرة غزة داعيا الطرفين إلى التهدئة وضبط النفس كأنما الأمر يتعلق بمواجهة بين جيشين متساويين متحاربين عوض البحث عن مخاطر خنق قطاع غزة وتقسيم فلسطين إلى فلسطينين اثنتين وتجويع مليون ونصف من البشر وقصف الأبرياء من نساء وأطفال ورضع بالطائرات والصواريخ! نعم! والله هذا قول أحد الفرنسيين الأحرار في حق سياسة بلاده وهو مبعث أملنا نحن العرب والمسلمين بأن معركة الرأي العام في الغرب يمكن كسبها ولكن لمن تقرأ زبورك يا داود فالعرب في وادي والعالم في وادي ونحن ننزلق مع الأسف إلى سفاسف الأمور وتفاصيلها في مجال العلاقات الدولية بينما تنجح السياسة الاسرائيلية في جر فرنسا كلها هذا العام جرا قسريا للاحتفال بعيد ميلادها الستين بفضل استخدام أداة الكتاب والثقافة. والحقيقة المرة الأخرى التي أعرفها في باريس وربما في أغلب عواصم الغرب هي أنه ليس لدينا في سفاراتنا العربية ملحقون ثقافيون! أما اذا احتجت بعضها على ما أدعيه وذكرت بأن لديها ملحقا ثقافيا في سفارتها إلى جانب الملحق العسكري والأمني فإن سؤالي يصبح: كم وزع هذا الدبلوماسي المثقف من كتاب وكم من مقال صدر عن الفكر العربي والكتاب العربي في البلاد التي هو معتمد لديها؟ والله الهادي إلى سواء السبيل. عن صحيفة الوطن العمانية 19/3/2008