انسوا الإصلاح... لنتحدث عن التغيير! صلاح الدين حافظ نعم... المطلوب الآن أن ننسي الإصلاح ونتجاهل مجرد الكلمة, ونغلق الملف الذي تحول في السنوات الأخيرة إلي مطلب شعبي, مثلما تحول في أيدي حكوماتنا إلي مجرد ورقة للعب بالعواطف والتلاعب بالعقول... أطرف ما سمعته أخيرا, أن التمهيد لحملة محو الإصلاح معني ومبني, من ذاكرتنا, قد بدأت الترويج للقول بأن الإصلاح يعني أن هناك فسادا وأوضاعا مختلة يجب إصلاحها, وهذا غير صحيح, كما يدعون, إنما الصحيح أن نستخدم كلمة التغيير بدلا من الإصلاح! وأظن أننا سوف نشهد في الفترة المقبلة, هذا التحول اللفظي الدال, من ترديد كلمة الإصلاح إلي إشاعة وإفشاء كلمة التغيير, دلالة علي نفض اليد من حكاية الإصلاح وخصوصا الإصلاح السياسي والديمقراطي, بعد أن صار مكروها منبوذا, تحت وهم أن التغيير أخف وطأة من الإصلاح, بينما للكلمتين معان متقاربة, ذلك أن التغيير أيضا يعني أن هناك أوضاعا غير سليمة وفاسدة يجب تغييرها.. ولا أعرف من هو العبقري, الذي يريد ذلك, والذي يكن كراهية وعداوة شديدة لفكرة الإصلاح من أساسها., والذي لم يقرأ ولم يدرك أن كلمة الإصلاح معني ومبني, قد جري تداولها منذ بدايات عصر التنوير والنهضة, الذي بدأ في بلادنا خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, علي أيدي رواد عظام مثل رفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وعبدالرحمن الكواكبي ولطفي السيد وسلامة موسي وطه حسين والعقاد, وغيرهم من الأساطين الذين طالبوا بالإصلاح في مواجهة التخلف والفساد, الذي تراكم في مصر والأمتين العربية والإسلامية. ومنذ ذلك الوقت وقضية النهوض والإصلاح, مطروحة تنتعش أحيانا وتكبت وتتواري أحيانا أخري, لكن العقد الأخير الرابط بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين, شهد انتعاشة جديدة وجريئة لقضية الإصلاح وضروراته الملحة, انعكست بشكل مباشر علي الأوضاع العامة في مصر وأكثر من دولة عربية, وذلك لأسباب ثلاثة, أولها الإصرار الشعبي الغلاب علي ضرورة تغيير الأوضاع وإسقاط عهود الاستبداد والحكم الفردي, وإطلاق الحريات العامة وفي مقدمتها حرية الصحافة والرأي والتعبير, وإجراء إصلاحات دستورية وسياسية تحترم الحرية وحقوق الإنسان. وثاني الأسباب يكمن في المناخ الدولي الذي يشهد الموجة العالية من التحول الديمقراطي علي النموذج الغربي, والذي أطاح بنظم حكم شمولية وديكتاتورية عارمة, واستبدل بها نظما ديمقراطية جديدة أو شبه ديمقراطية.. أما ثالث الأسباب فتمثل في الضغوط العاتية التي مارستها الولاياتالمتحدةالأمريكية علي حكوماتنا, لإجراء إصلاح ديمقراطي شامل, في إطار التوجه الأمريكي القائل بأن غياب الديمقراطية هو السبب الوحيد, الذي أفرز الإرهاب وجند الإرهابيين... *** ومن يتذكر حدة الضغوط الأمريكية بل والأوروبية, علي حكوماتنا خلال أعوام2003 حتي2005, لدفعها نحو الإصلاحات الديمقراطية, متراوحة ما بين النقد والهجوم الإعلامي والسياسي العلني, وبين استخدام وسائل ضغط سياسية واقتصادية أخري مثل التهديد بوقف المعونات, امتدادا للنقد العلني من الرئيس الأمريكي لرؤسائنا, من يتذكر ذلك كله, وبعضه لايزال ساخنا حاضرا, ثم يقارنه بحقيقة الموقف الأمريكي الآن من حكاية الإصلاح, يعرف أن حجم الفارق كبير, وأن الضغط الأمريكي كان ابتزازا سياسيا, أكثر منه رغبة حقيقية في مساعدة بلادنا علي التحول نحو الإصلاح الديمقراطي.. لم تعد أمريكا مهتمة بالديمقراطية في بلادنا, ولم يعد الإصلاح مطروحا علي أجندة الرئيس الأمريكي, بعد أن سحب كل ما قاله طوال السنوات الماضية حول الرسالة الإلهية التي تلقاها لكي يبشر بقيم الإصلاح والديمقراطية, في المجتمعات العربية والإسلامية التي تحكم بالحديد والنار, لم تعد أمريكا تهتم لأن اهتماماتها الرئيسية انصرفت إلي اتجاهات أخري, بل نقول إنها وقعت في أزمات حادة تهدد مصالحها الحيوية الاستراتيجية, من ورطتها في غزو العراق, إلي ورطتها في أفغانستان, ومن هذه وتلك إلي الأزمة النووية الإيرانية, وهي وغيرها مثل فلسطين ولبنان والسودان, أزمات استدعت أن تخوض جيوشها حروبا متسعة الجبهات, وأن تخوض دبلوماسيتها معارك أكثر اتساعا تتعرض فيها لنقد بل لكراهية الشعوب, وأن تتعرض مصالحها الاقتصادية وخصوصا النفط وطرق التجارة, لمخاطر شتي جراء هذه الأزمات, تخسر فيها مليارات وراء المليارات! فكيف يمكن لأمريكا أن تتحدث عن الإصلاح الديمقراطي في بلادنا, بينما هي غارقة لأذنيها في أزمات عسكرية سياسية اقتصادية حادة, وكيف يمكن لواشنطن أن تضغط علي الحكومات العربية مثلا, التي طالما وصفتها بأنها استبدادية فاسدة, بينما هي تحتاجها الآن للوقوف إلي جانبها في أزماتها وورطاتها المتعددة, ولذلك قايضت الأطراف المتحالفة الأمريكية والعربية صفقة بصفقة, كف الحديث عن الإصلاح الديمقراطي, مقابل الوقوف إلي جانبكم في أزماتكم!! استحضرت كل هذه الأفكار والتحولات, وأنا أشارك الأسبوع الماضي في المؤتمر الخامس للإصلاح العربي, الذي تنظمه مكتبة الإسكندرية كل عام, تذكرت وثيقة الإسكندرية التي صدرت عام2004, والتي رسمت خطة الإصلاح العربي علي المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. تري أين هي الآن, ما مصيرها, هل استفادت منها النظم العربية, هل قرأها حاكم عربي واحد, عشرات الأسئلة تزاحمت ليس علي عقلي فقط, ولكن علي عقول مئات الحاضرين من المثقفين العرب, ومعظمهم يشارك بانتظام في مؤتمرات الإصلاح بمكتبة الإسكندرية, منذ المؤتمر الأول عام2004.. الحقيقة أن الوثيقة تحولت في عرف المثقفين وبعض السياسيين العرب, إلي مرجعية فكرية وسياسية للإصلاح العربي, بينما تحولت عند ذوي الشأن وأصحاب القرار, إلي ملف في خزينة سرية يأكلها التناسي ثم النسيان, وبقدر ما رحبت بها أمريكا وأوروبا آنذاك, بقدر ما استقبلتها القمة العربية المنعقدة في تونس2004, استقبالا فاترا, لكنها استخدمتها ورقة مقايضة تجاه الضغط الأمريكي... وهذا ما حذرنا منه في حينه وعلانية! *** أعترف بأن الإحباط واليأس قد أصاباني من انتكاس الأحلام الوردية بإصلاح شامل وعاجل, مللت المشاركة في مؤتمرات وندوات لا تحصي حول الإصلاح, لكنني في الوقت نفسه حريص علي المشاركة في المؤتمر السنوي للإصلاح بمكتبة الإسكندرية, حيث أجد التواصل الشخصي والمعرفي, وحيث الحوارات والمناقشات الحرة والآراء المتصادمة, التي تظللها دائما وثيقة الإسكندرية الداعية للإصلاح بأيدينا لا بأيدي غيرنا, وهي دعوة نؤمن بها ونساندها رغم صعوبة تحقيقها.. تجنبا للرتابة والتكرار, وبصرف النظر عن اللت والعجن, وفي بادرة إيجابية, أصدر مرصد الإصلاح العربي, الذي أقيم وفق وثيقة الإسكندرية, تقريره السنوي الأول الذي يرصد خطي الإصلاح السياسي الاقتصادي والاجتماعي الثقافي في العالم العربي, وقد اعتمد التقرير علي دراسات واستطلاعات رأي وبحوث علمية, لقياس مدي ما حققته الدول العربية في مسيرة الإصلاح, وأظنه من جانبي قليلا بل ضئيل, لكن مبادرة إصدار هذا التقرير أخيرا, تمثل تحولا إيجابيا يسهم علي الأقل في دعم دعاوي الإصلاح والتحريض علي التمسك به, في وجه المعاندة الحكومية... لقد ظل المثقفون والسياسيون والباحثون العرب, سنوات طوالا, يعتمدون في دراساتهم وبحوثهم حول الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية العربية, علي تقارير أجنبية تصدر عن عشرات من مراكز البحوث الأمريكية والأوروبية, لكن التقرير السنوي لمرصد الإصلاح بمكتبة الإسكندرية, إضافة إلي التقرير العربي للتنمية البشرية, يفتح بابا جديدا للتعمق في قضية الإصلاح في بلادنا, ضروراته ومعوقاته, ويثير حوارا جادا حول هذه القضية الجوهرية, ويبتعد عن تقارير الدعاية والترويج السياسي الفج, وذلك بفضل مجموعة الخبراء والمؤلفين القائمين عليه, وهم من أفضل العقول العربية.. ترحيبي هذا بتقرير مرصد الإصلاح العربي, لا يمنعني من التنبيه إلي آفة تتحكم فينا, إذ نبدأ الخطوات بقوة وسرعة وجدية, ثم بعد حين تتباطأ الخطي ويضعف الجهد ويزول الحماس, فتختفي الجدية والموضوعية, وتتسلل التأثيرات المناقضة والآفات الضارة, ونصحو علي الخرق يتسع علي الراتق, ويصبح حديث الإصلاح والتغيير مجرد ثرثرة صالونات, لا تصلح ولا تغير, بينما الفساد والاستبداد يتراكمان! *** ** خير الكلام: يقول عبدالرحمن الكواكبي: ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم... عن صحيفة الاهرام المصرية 12/3/2008