الأزمة اللبنانية والمبادرة العربية إلى أين؟ د. سليم الحص ربما كان أفضل جواب على السؤال في إجراء جردة بمن ليس له مصلحة في التوصل إلى حل لأزمة لبنان الراهنة، ومحورها انتخاب رئيس جديد يكون اختياره توافقياً ويقترن انتخابه بتفاهُم حول بعض القضايا تدارُكاً لاحتمال أن تكون هذه القضايا سبباً لشل العهد العتيد. التوافق على شخص الرئيس العتيد أضحى مُنجزاً بتلاقي جميع أفرقاء الساحة اللبنانية على ترشيح قائد الجيش العماد ميشال سليمان، ولكن انتخابه لم يتم نظراً إلى الخلافات المحتدمة حول قضايا معينة، وتحديداً تقاسُم مقاعد الحكومة الأولى في العهد الجديد، وهي من المفترض أن تكون حكومة وحدة وطنية تضمّ فريقي النزاع. وكذلك الخطوط العامة لقانون الانتخاب، وقد كان تلاقٍ واسع على اعتماد الأقضية دوائر انتخابية وربما على غرار قانون العام ،1960 أما نحن فلا نرى في القضاء حلاً موفقاً، ذلك لأن غالبية الأقضية في لبنان هي ذات لون طائفي أو مذهبي خالِص أو غالب، واعتماد القضاء سيكون سبباً لإنتاج مجلس نيابي تغلب المذهبية والطائفية على تكوينه، ومن ثم على أدائه. والمعروف أن الفئوية هي داء لبنان العضال. ثم إن اعتماد القضاء دائرة انتخابية يتعارض صراحةً مع مضمون اتفاق الطائف الذي نص على اعتماد المحافظات دوائر انتخابية. ونحن من الذين يرون أن الدوائر الأكبر واعتماد قاعدة النسبية هُما السبيل لضمان تمثيل شعبي أكثر صحّة أو صدقيّة. القضية المركزية التي تؤخّر انتخاب الرئيس التوافقي هي الاتفاق على حكومة الوحدة الوطنية المرتقبة. لقد حسمت المبادرة العربية، التي صدرت عن وزراء الخارجية العرب في الرياض، الأمر بتحديد ثلاثة عناصر للحل: انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً توافقياً، وإقامة حكومة وحدة وطنية لا يكون فيها حقّ الاستئثار بالقرار أو تعطيل القرار في يد أي من الفريقين، ويكون لرئيس الجمهورية نصيب مُرجّح، ثم الاتفاق على قانون انتخاب. المبادرة كانت عادلة ومتوازِنة، ولكن تفسير البند الثاني فيها أثار إشكالات: ففيما فسّرته المعارضة بأنه يعني تقاسُم مقاعد مجلس الوزراء في حكومة ثلاثينية بواقِع عشرة وزراء لكلٍ من الأكثرية والمعارضة والرئيس، طالبت الأكثرية، باعتبارها كذلك، بأن يكون عدد المقاعد المخصص لها أكثر من العدد المخصص للمعارضة. ولكن المشكلة أن الأكثرية، لو أعطيت مقعداً واحداً أكثر من الثلث في حكومة ثلاثينية، أي 11 بدلاً من ،10 لأضحى في يدها حقّ تعطيل أي قرار، وهذا مخالف لنص المبادرة العربية. طرحنا حلاً لهذا الإشكال بالإقلاع عن صيغة الحكومة الثلاثينية. والمعروف أن الحكومة الثلاثينية لم تكن مألوفة قبل تسلّم المغفور له الرئيس رفيق الحريري سدّة رئاسة الوزراء. وليس في لبنان ثلاثون حقيبة وزارية أساساً، لذا فإن أي حكومة ثلاثينية تضم عدداً من وزراء الدولة، أي وزراء من دون حقائب. لقد ترأستُ شخصياً في حياتي السياسية خمس حكومات، كانت أكبرها من ستة عشر وزيراً، وهي آخر حكومة ترأستها ما بين 1998 و2000. فاقترحت حلاً للإشكال القائم بتقليص حجم الحكومة العتيدة من 30 إلى 16 وزيراً، على أن يكون على قمّتها رئيس وزراء توافقي، أي مقبول من الجانبين، على غرار رئيس الجمهورية. ويمكن عند ذاك توزيع الحقائب بواقِع 6 إلى 5 إلى 4 بين الأكثرية والمعارضة ورئيس الجمهورية. ففي هذه الصيغة ليس بين الفريقين مَن يمتلك القدرة على الاستئثار بالقرار أو تعطيله، كما تقضي المبادرة العربية. فأكثرية الثلثين، المطلوبة في اتخاذ قرارات أساسية (أي 11 صوتاً)، لا يمتلكها أي من الفريقين، ولا تتأمّن هذه الأكثرية إلا إذا اتّفق الفريقان على القرار (5+6). ولكن اقتراحنا لم يلقَ هوى فلم يعتمد لسبب لا ندريه، مع أنه ينسجم مع المبادرة العربية إلاّ في ناحية واحدة إذ لا يحفظ للرئيس القدرة على ترجيح القرار. ونحن لا نعتقد الترجيح يجب أن يكون في يد الرئيس ونحن لسنا في نظام رئاسي. بذل أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى جهوداً مضنية في محاولات للتوفيق بين الفريقين حول صيغةٍ ما للحل فما استطاع. والسبب لم يعد خافِياً على أحد: المسألة ليست مجرد مسألة منطِق وإقناع. فالقرار في نهاية التحليل خارجي إلى حدٍ بعيد. إنه مرتبط بالموقف الأمريكي، واستطراداً مواقف الدول العربية والأوروبية التي تسير في الركب الأمريكي. وهو تالياً مرتبط بالتجاذب القائم بين الدولة العظمى وإيران، وسوريا محسوبة في جانب إيران في الميزان الأمريكي. وكذلك بالإشكال القائم بين المملكة العربية السعودية وسوريا. حاولتُ يوماً أن أقنع المسؤولين السعوديين عبر أحد أبرز وجوههم بدعوة القيادات اللبنانية إلى المملكة للتباحُث في المشكلة والسعي لإيجاد حلول توافقية لها. وكان للمملكة العربية السعودية مأثرة في هذا المجال عندما دعت النواب اللبنانيين في عام 1989 إلى لقاء في الطائف فكان الاتّفاق الشهير الذي أنهى أزمة دامية دامت أكثر من خمسة عشر عاماً. وليس بين الأقطار العربية مَن يستطيع القيام بمثل هذه المبادرة من دون إثارة حساسيات أو اعتراضات من هنا وهناك في لبنان سوى المملكة العربية السعودية.فجاءني الجواب عبر الوَجه السعودي الكبير أن الأمر لن يستقيم هذه المرة ما دام هناك إشكال بين المملكة العربية السعودية وسوريا. فالخوف هو أن يتم اتفاق بين اللبنانيين في المملكة ولا يرى النور إذا لم تكن سوريا راضية عنه. كتبت على الأثر إلى الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد في الموضوع فكان جوابه في منتهى الإيجابية، وقد انعكست هذه الإيجابية في مؤتمر وزراء الخارجية بعد بضعة أيام فكانت المبادرة العربية المعروفة. إلا أن الأجواء السعودية والسورية عادت فتعكّرت، فعدنا إلى المربّع الأول من حلبة التجاذب. لعل الدولة العظمى أمريكا تقف إلى حد ملحوظ وراء السلبية التي تواجه محاولات الحل لأزمة لبنان. ومن وراء أمريكا تقف “إسرائيل"، وهي عدو له مصلحة في إثارة القلاقِل والفِتن في لبنان، خصوصاً في وجه حزب الله الذي سجّل انتصاراً عليها في حرب صيف العام 2006 والتحالف بين أمريكا و"إسرائيل" يُداني التطابُق في السياسة والمواقف إزاء لبنان والمنطقة، فلا خلاف بينهما حتى في التفاصيل. وكان آخر تجليات الموقف الأمريكي من الأزمة اللبنانية في ما أدلى به الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إذ قال، في ختام جولته الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط إنه يدعم حكومة السنيورة بالاسم (وهذا غير مألوف) وأردف القول: إنه دعا سائر القادة العرب إلى دعم هذه الحكومة، وعند وصوله إلى واشنطن عاد فأكّد هذا الموقف عينه. فعلّقنا على هذا الموقف بالقول: إن دعم حكومة الرئيس السنيورة يعني دعم استمرارها، واستمرارها لن يكون ممكناً إلاّ باستمرار الأزمة. إذ إن نهاية الأزمة تعني انتخاب رئيس للجمهورية وقيام حكومة جديدة تحل محل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. لماذا يا تُرى هذه السلبية من دولة عظمى، ولبنان يوازي حجماً حيّاً في إحدى المدن الكبرى الأمريكية؟ يبدو لي أن أمريكا لا تريد شيئاً من لبنان بدليل أنها تمتدح ديمقراطيته المزعومة، ولكنها تريد الكثير الكثير عبره. إن أمريكا تستخدم لبنان في وضعه الراهن واسطة لممارسة ضغوطها على سائر قوى المنطقة. فعبر لبنان تضغط على الفلسطينيين والسوريين والإيرانيين والسعوديين وسواهم، وكلهم ممثلون بقوى معينة داخل لبنان. ويجب ألا نغفل في أي حال مصلحة “إسرائيل"، حليفة أمريكا وشريكتها المشؤومة في المنطقة، في إثارة القلاقِل والفتن في بلدنا. هكذا يبقى أُفق الأزمة اللبنانية مفتوحاً على كل الاحتمالات بلا حدود أو ضوابط لنا نحن اللبنانيين أي سيطرة عليها. نحمد الله أن الوضع لم ينفجر على الأرض بفضل تمسّك الناس، ومعهم عدد من القيادات، بالسِلم الأهلي على الرغم من استعار بعض عوامل الفرقة والانقسام والعصبية القبلية، حتى أن هناك من قال: إن لبنان يشهد حرباً أهلية داخل النفوس، ولكنها ظلّت حَبيسة النفوس فلم تنفجر في الشارع. ونرجو أن يبقى الأمر كذلك إلى أن تتبدل المعطيات أو إلى أن يستقل اللبنانيون برأيهم فيتعقلوا ويتّخذوا قرار الحل بصرف النظر عن آراء الخارج وسياساته. عن صحيفة الخليج الاماراتية 27/2/2008