منطق المفاوضات الإيرانيةالأمريكية د. مصطفي اللباد تأجل موعد الجولة الرابعة من المفاوضات الإيرانيةالأمريكية حول العراق بناء علي طلب إيران, علي الرغم من إعلان طهران أن هيكلية المباحثات تم التوافق عليها وأن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد سيزور بغداد في مطلع مارس المقبل, وبغض النظر عن الموعد المفترض لإجراء الجولة الجديدة تبدو المفاوضات بين الطرفين صعبة علي المستوي الأيديولوجي. فالولايات المتحدة هي الشيطان الأكبر عند الإيرانيين, وإيران هي محور الشر عند الأمريكيين, ويؤدي اختزال المشهد التفاوضي في لغة الخطاب الإعلامي المتبادل فقط إلي اعتقاد متسرع مفاده ان المفاوضات بين الطرفين غير ممكنة, إلا أن ملاحظة إشارات وتحولات كل طرف حيال الآخر ستجعل الصورة أكثر تعقيدا وإثارة للاهتمام, جرت مياه كثيرة في أنهار إيران وأمريكا منذ انتهاء جولة اللقاء الثالثة بينهما حول العراق في أغسطس الماضي, وبشكل هيأ الاجواء لتحسن نوعي في الإطار الحاكم للمفاوضات بينهما. والدليل علي ذلك التقارب الأمريكي مع العشائر العراقية السنية تحت شعار صحوة العشائر بهدف مكافحة تنظيم القاعدة وهجماته ضد الشيعة, بالترافق مع التراجع الكبير في عمليات العنف التي تقوم بها ميليشيات شيعية ضد السنة, وهي إشارة إيرانية ذات مغزي للأمريكيين, وإن كان معلوما أن أهم أوراق إيران الردعية في العراق يتمثل في قدرتها علي إشعال حرب اهلية هناك, فإن واشنطن تمتلك بدورها رادعا مؤلما: ضربات جوية ضد البنية التحتية الإيرانية, لم تشعل إيران الحرب الاهلية بل وقلصت العنف الشيعي في العراق, أما واشنطن فقد ردت بإخراج تقرير استخباراتها الوطنية الشهير إلي العلن, والذي أكد أن إيران لاتملك برنامجا نوويا عسكريا, أي أن واشنطن حيدت خيار الضربات الجوية مرحليا علي الأقل ولحين صدور تقرير جديد. لايعني الإعلان عن الاتفاق علي هيكلية المباحثات سوي امر واحد في الواقع: أن هناك مفاوضات تدور في القنوات الخلفية بين الطرفين, وينطبق الامر نفسه علي زيارة نجاد إلي بغداد, حيث إنها ستكون الأولي لرئيس إيراني منذ انتصار الثورة الإيرانية عام1979, ومن الطبيعي ألا تتم مثل هذه الزيارة دون موافقة أمريكية, وان شهدت الأسابيع الأخيرة بالرغم من التطورات المذكورة أعمال عنف من ميليشيات تابعة لإيران في العراق, كما لوحت واشنطنلإيران بخياراتها العسكرية عند حادثة مضيق هرمز الأخيرة, إلا أن تلك الظواهر الثانوية لاتعدو أكثر من إظهار كل طرف لعضلاته وخياراته أمام الطرف الآخر, دون المضي بها إلي التصعيد. كانت الوظيفة الأساسية للعراق في السياسة الدولية منذ انتصار الثورة الإيرانية هي لعب دور الكبار العازل بين إيران وشبه الجزيرة العربية. وأعتقدت إدارة بوش أنها تستطيع تركيب حكومة عراقية موالية لها بعد احتلال العراق عام2003 مع قيام العراق بنفس دور العازل اياه, وهو الاعتقاد الذي ثبت عمليا عدم صحته علي أرض الرافدين. ولذلك فقد تغير الوضع الجيوبوليتيكي في المنطقة لمصلحة إيران بسبب استثمارها لأخطاء حسابات واشنطن الأساسية في العراق, وبشكل جعلها طرفا أساسيا في المعادلة العراقية, يتجسد الخط الأحمر الأمريكي اليوم في ضمان عدم سقوط العراق تحت النفود الإيراني, اما الخط الأحمر الإيراني فيتلخص في عدم تحول العراق إلي كيان معاد بهيمنة عسكرية طائفية سنية وتحت المظلة الأمريكية. وهو ماقد يقود إلي قيام حرب جديدة بين البلدين, يبدو الطموح الأقصي أمريكيا ظاهرا في تنصيب حكومة موالية تطرد النفود الإيراني من العراق وتحاصر طهران إقليميا, وبالمقابل يتلخص طموح طهران الأقصي في اتمام الانسحاب الأمريكي من العراق دون تفاهمات معها لتهيمن هي عليه بالنهاية, ولايخفي انه في حال تحقيق أي طرف لطموحه الأقصي سيكون الصراع علي العراق قد تم حسمه لمصلحة طرف وعلي حساب الآخر. تشير التقديرات الواقعية للموقف إلي ان واشنطن لم تستطع الوصول إلي هدفها الأقصي بعد خمس سنوات من الاحتلال بسبب العرقلة الإيرانية, في حين لاتملك طهران الوسائل لإجبار واشنطن علي الانسحاب دون شروط, لأن كل طرف لايستطيع تحقيق هدفه الأقصي, فالارجح أن يتم التباحث حول الموافقة علي الخطوط الحمراء لكل طرف, ثم الانتقال بعد ذلك إلي التوفيق بين الطموحات والأهداف المتعارضة بحلول وسط. الحل الوسط الممكن هو إعادة تكوين للسلطة العراقية بحيث لاتشكل تهديدا لإيران ولكنها تمنع الأخيرة في الوقت نفسه, من قلب التوازنات الإقليمية, أي باختصار الاتفاق علي منع كوابيس كل طرف, يملك كل طرف. مطالب حيال الآخر تتعدي الملف العراقي, فإيران تسعي إلي رفع الحصار الأمريكي المضروب عليها, وواشنطن تريد من إيران التوقف عن برنامجها النووي. ولأنه يصعب علي أي من الطرفين سياسيا وداخليا قبول الطلب الأقصي للطرف الآخر, فمن الممكن أن تغمض واشنطن عينيها عن ابرام إيران لصفقات من أطراف دولية تستورد بمقتضاها التكنولوجيا التي تريد, كما تستطيع طهران لجم برنامجها النووي ذاتيا ولكن دون ان تتوقف عنه, وإذا عرفنا ان إيران ستشهد انتخابات برلمانية في14 مارس المقبل, وواشنطن تعيش عام حملتها الرئاسية, لأمكننا توقع ان الخطاب الإعلامي بين الطرفين سيظل حادا للحفاظ علي الفرص الانتخابية لكل طرف في بلده.. تأسيسا علي ذلك ستبقي اللقاءات العلنية علي مستوي منخفض ومعرضة للتأجيل, في حين ستستمر المفاوضات الخلفية علي قدم وساق, أما المؤشر الواضح علي تقدم المفاوضات فستمثله زيارة نجاد الشهر المقبل إلي العراق. عن صحيفة الاهرام المصرية 20/2/2008