الأرض الطبيعية للمعركة توجان فيصل نادراً ما يخطيء السيد حسن نصرالله في التعبير ، فهذا المناضل العسكري الفذ والسياسي المفوه متمكن جداً من لغته مبني ومعني.. ولكن يبدو أن الضغوط الأمريكية- الإسرائيلية التي تسمي اعتباطاً دولية والتي أصبحت تمارس بألسنة وأيدي عربية ، باتت تؤثر حتي أكثرنا توخياً للدقة في اختيار تعبيراته. ومن هنا سقط السيد نصر في خطأ القول بأن المقاومة اللبنانية قبلت أن تكون معركتها مع إسرائيل " علي الأرض الطبيعية "- أي أرض لبنان - وان إسرائيل هي التي أرادتها الآن ، وبعد اغتيالها للشهيد عماد مغنية ، "معركة مفتوحة". وهو خطأ صححه جزئياً قائد لبناني آخر يعرف " ميدانيا" تداعيات هذا التصنيف الكارثية علي لبنان واللبنانيين ، كما علي العرب جميعاً ، حين أورد في تعقيبه علي خطاب السيد نصر الله جملة معترضة تدين " قبولنا" أساساَ بهذا التحديد للساحة الطبيعية للمعركة مع الكيان الصهيوني . والجملة جاءت "معترضة "لأن الجنرال عون كان مضطراً هو ايضاً فيما يبدو ، أمام " الشركاء في الوطن " و "الأشقاء العرب "، لتبرير تأييده لإعلان نصر الله قبوله الحرب المفتوحة من باب أنه حق اللبنانيين في " الدفاع عن النفس ". ولكن ذلك أيضاً تعبير آخر تنقصه الدقة ، بالذات حين يصدر عن قائد عسكري ، كون العرب لم يخوضوا أية حرب لا مع ما يسمي إسرائيل الان وحتماً ليس قبلها مع اليهود الذين عاشوا آمنين في كافة الأقطار العربية ولا مع غيرها لغير غايات " الدفاع عن النفس" . هذا إضافة إلي ان بعض المعارك " الاستباقية" التي تشن علي مواقع العدو او خطوط إمداداته، يمكن أن تقع هي ايضاً ، في تعريفها العسكري المجمع عليه دولياً وتاريخياً ، في إطار " الدفاع عن النفس" . بل إن إسرائيل ذاتها تحاول أن تتغطي بهذا التعريف حين اسمت جيشها الذي قام علي تجمع العصابات الصهيونية " جيش الدفاع الإسرائيلي" ، وكل "دفاعاتها" عن الكيان الذي أقامته علي أرضنا العربية الفلسطينية، ثم العربية الأردنية واللبنانية والسورية والمصرية وحتي التونسية ، كانت تبدأ بهجوم إسرائيلي علي تلك الأراضي. وحتي حرب اكتوبر التي بادرت بشنها مصر وسوريا لا تُخرج الجيش الإسرائيلي من خانة المعتدي ولا توقع سوريا ومصر في تلك الخانة ، كون إسرائيل كانت تحتل أراض إضافية منذ عام 67 تابعة لمصر وسوريا جري تحريرها في اكتوبر 73.. مما يجعل حرب تشرين مجرد معركة في إطار تلك الحرب المتصلة، الاستثناء الوحيد فيها أنها واحدة من المعارك القليلة التي كانت الغلبة فيها للعرب. فالحرب الإسرائيلية معلنة وباستمرار علي كل العرب حتي من اخضعتهم لاتفاقياتها الإلحاقية غير آمنين بعد كل ما قدموه طوعاً. ونستذكر هنا محاولة اغتيال السيد خالد مشعل في وسط عمان ، ولكن الأهم الذي نستذكره هو تصريح نتنياهو للإعلام أثناء زيارة وفد اردني برئاسة الأمير الحسن الذي كان حينها نائباً للملك. فقد وجه أحد الصحفيين سؤالاً للأمير عن رأيه في تلك الحادثة وأثرها علي العلاقات مع إسرائيل، وهو ما حاول الأمير تجنب الإجابة عنه بقوله أننا لا نريد العودة للماضي بل ننظر للمستقبل . ولكن المهم هنا والذي يكشف علاقة ونظرة إسرائيل حتي للعرب الموقعين والمطبعين وليس الممانعين هذه المرة ، هو ما قاله نتنياهو. فمع أن صحفياً آخر وجه سؤالاً آخر لنتياهو بعد هذا مباشرة ، مما يساعده علي عدم إحراج ضيوفه علي الأقل، إلا أن نتنياهو قال انه يريد ان يجيب أولاً عن السؤال السابق الذي وجه للأمير الحسن ، وإجابته كانت أن يد إسرائيل سوف تطال من تشاء من اعدائها في عمان وغيرها ومتي رأت في ذلك خدمة لأمنها !! أما امريكا فقد شنت مع حلفائها ثلاث حروب علي منطقتنا لايقل الدمار الذي أحدثته عن الحربين العالميتين، وكلها "إستباقية" وفي تأكيد لإعلانها أن حدود امنها الاستراتيجي يصل إلي العراق وإيران وباكستان وأفغانستان ، ومن خلفها إلي الصين لو استطاعت إليها سبيلا!! فأين أصبحت إذاً "مساحات المعارك الطبيعية" ، وبالذات في مجال الدفاع عن النفس وعن الأمن الاستراتيجي؟ ولكن أغرب ما في الأمر أنه، وبعد ان قبلت من تسمي اعتباطاً بالسلطة الفلسطينية ومعها اتباع أمريكا من العرب ، أن كل ما سبق واحتله الصهاينة حتي عام 48 ، ومعه في حقيقة الأمر كل المستوطنات التي أنشأتها علي الأرض الفلسطينية التي احتلتها عام 67 ، مناطق يحرم القتال فيها وأسمتها " ما وراء الخط الأخضر".. أعجبت الفكرة أمريكا ، وبذات المراهنة علي غبائنا أو تبعيتنا التامة، أسمت بدورها مواقع قيادات جيشها المحتل وإدارات شركات النفط وكارتيلات تجارة الحروب التي دخلت منذ عقود حيز "صناعتها" ايضأ ، وحتي أماكن ترفيه هؤلاء الأمريكان في قلب بغداد المحتلة ،أسمتها بالمنطقة الخضراء !! وغني عن القول أن "الخضرة " لا تعني الأمن والسلام فقط ، بل هي تعني الازدهار.. أما ساحة القتال " الطبيعية " مع المحتلين ، فهي بقية ارضنا حيث مزارعنا ومصانعنا ومصالحنا ، والأهم مدنيينا الذين يقتلون بلا حساب!! لقد سبق وكتبت مراراً مستنكرة قبولنا العجيب هذا لتحويل ما تبقي من ارضنا خارج الاحتلال ، وحيث تجمعات مدنيينا، بمن فيهم من هجروا من المناطق المحتلة واسرهم وأطفالهم ، لساحة الحرب الوحيدة المشروعة، وما خلفها منتجعات"خضراء" آمنة للمحتلين ليخططوا ويتآمروا بأمان ورفاهية ، كل مرة لاستهداف عينة مختارة للذبح المبرمج .. والأدهي أن كلاهما ، إسرائيل وأمريكا ، تتوقعان من بقية العرب المدرجين علي قائمة الانتظار ان يحموا ظهرها، بل ان يقوموا ببعض المهام المساندة.. اليس هذا بالضبط ما تطلبه إسرائيل الان وصراحة من السلطة الفلسطينية ومصر !! ولكن ما يفوق كل الحديث السياسي والاستراتيجي الموضوعي الذي كنت أسوقه في مقالاتي تلك، ما كتبه زميل القلم الكاتب والأديب محمد طمليه قبل شهرين تحت عنوان " القطيع". وهو بحكم كونه فلسطينياً عرف حياة اللجوء ، يعرف ما يتحدث عنه أفضل مني .. وحتماً تحدث بأبلغ مني وهو يقول : " خمسة شهداء - دفعة احدة - في غارة إسرائيلية علي خان يونس .. إسمعوا ، انا سئمت هذا الدور ، الدور الذي يجعلني نزيلا دائماً تحت الأنقاض ، أو نازحاً بائساً يحمل فرشة اسفنج في سيارة بك أب ويهرب إلي مكان بعيد عن القصف ، او اشلاء دفنت علي عجل . سئمت المعونات وأمي الباكية ومناشدة الضمير العالمي كي يضغط علي المعتدي ليكون أكثر رأفة. أريد أن اكون - ولو مرة في حياتي- معتديا . وان انتهك حقوق إنسان وان يتظاهر الناس في عواصم الدنيا تنديداً بي ، وتظهر صورتي مقرونة ب No أريد أن يقال عني بغيض وغاشم وأن يدحرني أحد باعتباري عدوانياً " !! الرجل لا يطلب أكثر من " حرب طبيعية " يتقاسم فيها الطرفان ، ككل المتحاربين ، ولو بدون عدالة، شيئاً من الغرم والغنم!! عن صحيفة الراية القطرية 20/2/2008