إرث بوش وزمن الحصاد المر إميل أمين هل حان الوقت لكي تحصد أمريكا ما زرعته في حقل علاقاتها مع موسكو؟ هذا التساؤل المثير قام بطرحه مؤخرا السياسي الأمريكي المخضرم باتريك بوكانان والمرشح السابق للرئاسة الأمريكية، وفي الإجابة يرى أن “رئيسنا المقبل سيواجه روسيا يقودها رئيس وزراء هو فلاديمير بوتين العاقد العزم على الوقوف في وجه غرب يعتقد الروس أنه عاملهم كأغبياء عندما سعوا إلى أن يكونوا أصدقاءه". وعند بوكانان كذلك “سيرفض الأمريكيون الذين يظنون أن بوتين لم يكن سوى بلطجي المخابرات الروسية الشهيرة KGB)) الاتهامات حول أي دور للولايات المتحدة في التفكك المهين الذي حاق بدول الاتحاد السوفييتي السابق وفي مقدمتها روسيا". غير أن واقع الحال يشير إلى أن غطرسة بيل كلينتون وجورج بوش الابن وحالة الرهاب الروسي لدى أولئك الذين جلباهم معهما إلى السلطة كانتا سبباً رئيسياً للعلاقة الممزقة اليوم مع موسكو، وحماقة ما أقدموا عليه بدت نتائجها واضحة مؤخرا في الانتصار الكاسح الذي حققه حزب بوتين (روسيا الموحدة) في الانتخابات التشريعية معتمدا على سيل من الإساءات والإهانة ضد الغرب. ومما لاشك فيه أن المواجهة الساخنة بين البلدين ستمضي قدما طالما بقي فلاديمير بوتين ممسكا فعليا بزمام السلطة في بلده، ولعل هذا ما دفع مجلة “التايم" الأمريكية لأن تختاره كرجل العام حتى ولو انقسمت الآراء حوله بين فريق يمقته ويرى أنه قد انضم من خلال سياساته إلى قائمة أبشع الطغاة في التاريخ الحديث والتي تضم هتلر وستالين، وفريق من محبيه يضعونه في قائمة هؤلاء الذين حاربوا من أجل إحلال السلام ومكافحة الجوع، ويذكرون له مساهمته النبيلة في النظام العالمي المعاصر. والواضح أن “التايم" وبحسب “بوريس كاديماكوف" المعلق السياسي لوكالة أنباء نوفستي الروسية لم تمنح بوتين اللقب لأنها تحبه، بل لأنها كانت تود إلقاء الضوء على دور روسيا في العالم المعاصر، فعندما أعطى الكرملين تعليماته بإغلاق صنبور الغاز كان نصف العالم على وشك الإغماء. وفي الحق فإن خطاب بوتين الأخير في ميونيخ قد اظهر أن روسيا لم تعد ترى الغرب كشريك ولكن كتهديد لأمنها، وكان حديثه أشبه بالصاعقة رغم أنه في البداية لم يكن يبدو أكثر من انفجار انفعالي إلا أنه وبعد أن عادت المقاتلات الروسية بعيدة المدى تحلق ثانية في الأجواء الدولية وبعدما قامت روسيا بعملية ناجحة لإطلاق صاروخ عابر للقارات لا تستطيع دفاعات الناتو جميعا التصدي له، ثم أعلنت انسحابها من معاهدة القوات التقليدية في أوروبا، بدا واضحا أن بوتين عاقد العزم على أن يجعل العالم الغربي وفي مقدمته واشنطن يحسب له حسابه مؤكدا أن مصالح الأمن الروسي ليست هي مصالح الغرب. والمقطوع به أنه إذا كان مصطلح “النتائج غير المقصودة" مستخدما بشكل واسع في مجال التجسس لوصف العواقب غير المقصودة للعمليات السرية مثل الثورة التي جلبت نظام الحكم الحالي في إيران إلى السلطة والتي يشار إلى أنها نتيجة غير مقصودة للانقلاب المدبر من الولاياتالمتحدة للإطاحة بمصدق عام 1953 وتنصيب الشاه، فإن النزعة القومية ونزعة العداء لأمريكا اللتين تنتشران في روسيا في عهد بوتين هما بمثابة نتائج غير مقصودة لعدم الاكتراث الأمريكي المفعم بالازدراء لحساسيات روسيا وتوغلات الأمريكيين التي تعكس غروراً أو تصلباً في المجال الروسي. وعلامة الاستفهام في هذا المقام والمطروحة من الأمريكيين هي كيف خسرت أمريكا شراكتها مع روسيا التي كان رونالد ريجان وبوش الأب قد حولاها بالفعل إلى حليف للولايات المتحدةالأمريكية؟ يقر بوكانان بأخطاء بلاده القاتلة التي قادت إلى هذه الكراهية والتي ترسخت عند الروس تجاه الأمريكيين ودعت فلاديمير بوتين ذات مرة للقول بأن السياسة الأمريكية مثل الذئاب الخاطفة حول العالم. ولم يكن بوتين ليقف دون حراك، فعندما حاول الأمريكيون إبعاده عن نفط أذربيجان، فإنه عمد إلى خفض الدعم فيما يتعلق بنفط أوكرانيا، وتواطأ مع ألمانيا حول خط أنابيب يمتد إلى بحر البلطيق لإبعاد بولندا عن تجارة النفط مع أوروبا الغربية. وكما نقل الناتو قواعده إلى جبهته وفنائه الخلفي، فإنه بدوره قد دخل في ما يشبه التحالف مع الصين وأربع دول تنتمي إلى وسط آسيا لطرد القوى العسكرية الأمريكية من تلك المنطقة. وكما تخلى الأمريكيون عن معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، فإن البرلمان الروسي اقترع منذ شهرين تقريبا بأغلبية مطلقة على إيقاف المشاركة في معاهدة القوات التقليدية في أوروبا. والحاصل أن الحديث يطول عن التصرفات العنصرية التي قامت بها إدارة بوش والتي أغفلت أن الناتو لم يكن هو الذي حرر أوروبا الشرقية، وإنما حررته موسكو بالانسحاب ومغادرة الجيش الأحمر لها بعد نصف قرن. ومع الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة وارتفاع أصوات عدد من المرشحين بضرورة طرد روسيا من مجموعة دول الثماني، يدرك المرء أن الرئيس القادم حتى ولو جاء من الديمقراطيين، سيرث تركة محملة بمشاعر متبادلة من الاحتقان ما بين البيت الأبيض والكرملين، مشاعر ساهمت في إذكاء نارها سياسات أمريكية سعت ولا تزال لفرض ما بات يعرف بزمن الPAXA AMERICANA في محاولة مغشوشة لتقليد مثيلتها في زمن الامبراطورية الرومانية. ويضحى من العسير مع تلك السياسات رأب الصدع الذي تحول إلى شرخ مع الكرملين، وبخاصة إذا مضى الرئيس القادم على ذات نهج بوش الدوجمائي الذي يقترب في عنصريته من النظم الفاشية. وتبقى المحصلة النهائية في كل الأحوال سلبية إلى أقصى حد ومد، وفي هذا يصدق القول إن بوش أكل الحصرم وأسنان الأمريكيين تضرس. عن صحيفة الخليج الاماراتية 9/2/2008