من أجل مركز خليجي للدراسات الأميركية محمد محفوظ لعلنا لا نجانب الحقيقة، حين القول: أن العالم بأسره وعلى مختلف الصعد والمستويات، دخل مرحلة جديدة بعد أحداث (11 سبتمبر 2001م). وتأثرت جميع الدول والمجتمعات بشكل أو بآخر من هذا الحدث الضخم الذي أصاب أكبر قوة عظمى في العالم، وألقى بتأثيراته وتداعياته على العالم كله. والذي ساهم في مراكمة التحولات، وتأثر دول العالم قاطبة بما حدث في نيويورك وواشنطن، هو إصرار الإدارة الأميركية على تجييش دول العالم للمساهمة معها للقضاء على الجهات الفاعلة والداعمة لأحداث سبتمبر الرهيبة. والذي يعنينا في هذه المقالة، هو طبيعة العلاقات الخليجية - الأميركية بعد هذا الحدث الضخم. إذ عملت دوائر سياسية واقتصادية عديدة، لتوجيه الاتهام المباشر إلى بعض الدول العربية، وذلك لأن المجموعة التي قامت بتفجيرات وعمليات سبتمبر هم من العرب. لذلك فإن العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين الطرفين، دخلت مرحلة جديدة. ومنذ ذلك الحدث وإلى الآن تقريباً فإن العلاقة تتراوح بين الانسجام والتواصل الاستراتيجي، والاختلافات التكتيكية التي برزت وتبلورت من جراء أحداث سبتمبر وتداعياتها الاستراتيجية والسياسية والأمنية والاقتصادية. ولقد أبانت هذه الأحداث وتداعياتها وتأثيرها على مختلف الصعد، حاجة الطرفين معاً في أن يعمق كل طرف معرفته بالطرف الآخر. فالعلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية الطويلة، ليست كافية في أن يتعرف كل طرف على الآخر في أبعاد الثقافية والمجتمعية. فلا نحن في المنطقة يبدو إننا نمتلك قراءة ومعرفة تفصيلية بالواقع الأميركي على مختلف الصعد والمستويات. ولا الولاياتالمتحدة الأميركية، تمتلك قراءة ومعرفة تفصيلية بالواقع الخليجي على مختلف الصعد والمستويات. وفي تقديرنا أن المصلحة الاستراتيجية لكلا الطرفين، تقتضي أن يتعرف كل طرف عن الآخر كما هو وبعيداً عن عمليات التهوين أو التهويل. وبدون هذه المعرفة، ستبقى التباينات التكتيكية والسياسية، حاضرة بقوة في مشهد العلاقة المتداخلة بين الطرفين. وعلى صعيدنا الداخلي نحن في الخليج، نشعر بأهمية تأسيس مركز أو معهد بحثي ودارساتي يعنى بالشأن الأميركي في مختلف الجوانب. وذلك لأن عالم اليوم، هو عالم المعلومات الموثقة والدقيقة التي يبنى عليها الموقف أو القرار السياسي أو الاقتصادي أو الاستراتيجي. ولا يمكننا أن نواجه تحديات وتداعيات العلاقة مع الولاياتالمتحدة الأميركية اليوم، بدون معرفة نوعية بالواقع الأميركي، سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاستراتيجي. لذلك فإننا نرى أن الحاجة ماسة على صعيدنا، لتشكيل مؤسسة بحثية، تضم خيرة الباحثين على صعيد المنطقة، وتتواصل مع المؤسسات والمراكز البحثية في العالم، وتأخذ على عاتقها رصد الواقع الأميركي، وتقديم معلومة دقيقة ورؤية نوعية عن هذا الواقع وديناميات فعله وتطوره المستديم. فلا زال الكثير من أبناء المنطقة، يجهلون سبل وآليات صنع واتخاذ القرار في الولاياتالمتحدة الأميركية. ودعوتنا إلى خلق إطار مؤسسي لقراءة ومتابعة الشأن الأميركي، ليس دعوة للانبهار والتلاشي. وإنما هي دعوة لكي نتعرف على هذه الدولة التي تتحكم في السياسات الدولية، ولها تأثير مباشر على أوضاعنا وأحوالنا. فهي على حد تعبير البعض الإمبراطورية الرومانية للأزمنة الحديثة. ودائماً ومن خلال متابعاتي للشؤون السياسية الإقليمية والدولية، التي تشكل الولاياتالمتحدة الأميركية قطب الرحى فيها، أشعر بفداحة النقص الحقيقي الذي نعيشه على صعيد المعلومة والرؤية للواقع الأميركي. خذ على ذلك مثلاً بطبيعة العلاقة بين المجتمع الأميركي بدوائره السياسية ومؤسساته الاقتصادية والمالية والتجارية والكيان الصهيوني. فالعلاقة بين هذين الطرفين، علاقة معقدة ومركبة ودقيقة، ولا يمكن معرفتها على نحو دقيق وتفصيلي، بدون معرفة الواقع الأميركي بكل تضاريسه وتشعباته. فالمعرفة الدقيقة اليوم، هي حجر الزاوية في مشروع إدراك طبيعة التوجهات السياسية والدبلوماسية التي تؤثر على العالم بأسره. وكلما اقتربت أميركا من فضائنا الإقليمي، وتدخلت في شؤونه السياسية والاقتصادية والأمنية، ازدادت حاجتنا إلى المعرفة الدقيقة لهذه الدولة - الأمة - التي تطلق عليها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس بيل كلينتون، بأنها الأمة التي لا غنى عنها للعالم. وبالإمكان تكثيف حاجتنا إلى معهد أو مركز خليجي للأبحاث والدراسات الأميركية في النقاط التالية: 1- إن الولاياتالمتحدة الأميركية اليوم، دولة كبرى وذات شأن على الصعيد الدولي، وتمتلك قدرات هائلة للتأثير على كل مناطق وأحداث الصعيد العالمي. ولا يمكن لنا أن نتعاطى مع هذه الدولة وشعاراتها ومشروعاتها، التي نتأثر بها شئنا أم أبينا، بلغة الشعار أو الخطابات المجردة والمواقف الجاهزة. وإنما نحن بحاجة إلى دراسات وأبحاث علمية دقيقة عن هذه الدولة والحضارة. وذلك من أجل إسناد مواقفنا وآرائنا، تجاه هذه المشروعات والسياسات على هدى رؤية ومعلومة رصينة ودقيقة. ولاشك أن وجود مؤسسة وطنية أو إقليمية جادة على هذا الصعيد، سيوفر لنا الإمكانية الحقيقية والفعلية لسبل التعامل مع هذه الدولة وسياساتها الإقليمية والدولية. فلا يمكن أن نواجه مشروعاً أو مخططاً، لا نعرف كيف يفكر أصحابه، وما هي أجندتهم الحقيقية في مجالنا العربي والإسلامي. ومعرفة نمط التفكير الأميركي، ليس اجتهاداً شخصياً، وإنما هي عمل مؤسسي، تتراكم فيه الخبرة، وتنضج فيه الرؤية، ويتبلور فيه الموقف. 2- تنمو في واقعنا الشعبي والاجتماعي، رؤية نمطية ومتوارثة، عن الولاياتالمتحدة الأميركية. هذه الرؤية تمتلك مواقف كبرى وجاهزة عن أميركا، وقد تكون صحيحة. إلا أنها لا تدرك طبيعة الحسابات السياسية والموازين الاستراتيجية التي تتحكم في صانع القرار والسياسة. واستمرار الرؤية النمطية - الجامدة عن الولاياتالمتحدة الأميركية، بعيداً عن المعرفة العلمية والموضوعية والدقيقة بأميركا، قد يدخلنا في خيارات لا تنسجم ومصالحنا الأمنية والسياسية والوطنية. لذلك فحاجتنا ماسة، على الصعيد الوطني والإقليمي، للخروج من نفق المواقف النمطية عن الآخرين، ونؤسس لمواقفنا على ضوء معرفة دقيقة وتفصيلية عن الآخرين في كل شؤونهم وأحوالهم. ولا ريب أن وجود مؤسسة وطنية - علمية، تعنى بالشأن الأميركي على مختلف الصعد، سيجنبنا الكثير من تأثيرات الرؤى النمطية، التي تحملها شرائح اجتماعية واسعة عن أميركا. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني القبول بسياسات أميركا وخياراتها في المنطقة والعالم، وإنما نحن بحاجة دائمة أن نؤسس مواقفنا سواء كانت في الجانب الايجابي أو الجانب السلبي على أسس علمية - موضوعية، ونلحظ فيها مصالح الوطن وتطلعات المواطنين. 3- ثمة مؤشرات ومعطيات عديدة، تدفعنا إلى الاعتقاد أن الولاياتالمتحدة الأميركية، تعمل اليوم على تطوير وتحديث معرفتها بنا من خلال مقولات نهاية التاريخ وصدام الحضارات والمقولات الاستشراقية المتحيزة أو المقولات المسيحية الكلاسيكية، وغيرها من المقولات التي تدفع دوائر صهيونية معروفة لتبنيها من قبل الإدارة الأميركية. ولاشك أن بناء الولاياتالمتحدة الأميركية لمعرفتها وسياستها تجاهنا على هذه المقولات، يضر بمصالحنا وأوضاعنا، ويعد تشويهاً حقيقياً لواقعنا وأحوالنا. ولا يمكن أن نقف صامتين أمام ذلك، لما له من تأثير مباشر علينا. من هنا تنبع الحاجة إلى مؤسسة وطنية - علمية، تعنى بتصحيح المقولات وفضح التحيزات وتعرية الدوائر ذات العقل المأزوم والتي تعمل على الاصطياد في المياه العكرة، وذلك لمصالح استراتيجية مرتبطة بطبيعة خيارات السلام في منطقة الشرق الأوسط وأمن الكيان الصهيوني. فالساحة الأميركية ساحة مفتوحة، وكما يعمل فيها أعداء الأمة وخصومها، من أجل مصالحهم ومخططاتهم، نحن بحاجة إلى مؤسسة وطنية وإقليمية تعنى بالتفاعل الإيجابي مع الجالية العربية والمسلمة في أميركا لخلق واقع عربي - إسلامي ضاغط تجاه قضايانا. وتعنى أيضاً بمسألة التفاعل الحضاري مع مؤسسات وفعاليات المجتمع الأميركي على قاعدة الاحترام المتبادل. فإذا كانت الولاياتالمتحدة الأميركية، تؤسس رؤيتها تجاهنا على نحو سطحي وقشري ومحدود، فهذا يحملنا مسؤولية العمل على دحض هذه الرؤية وصياغة رؤية بديلة لا تتجاوز حقائق التاريخ ومكتسبات الراهن. فالولاياتالمتحدة الأميركية في سياساتها ومخططاتها ومشاريعها، تثير اليوم الكثير من الأسئلة والتحديات، ولا يمكننا الوقوف متفرجين على ذلك. وإنما نحن بحاجة إلى صياغة رؤية متكاملة تجاه هذه الأسئلة والتحديات. ومن المؤكد أن معرفة الواقع الأميركي بكل مستوياته وخصوصياته، معرفة دقيقة وواعية وموضوعية، هي الخطوة الأولى في مشروع بناء رؤية ذاتية تجاه تحديات المرحلة، التي تطلقها أميركا عبر سياساتها وخياراتها الاستراتيجية. ونحن في منطقة الخليج العربي، حيث تربطنا بالولاياتالمتحدة الأميركية، علاقات تاريخية متميزة، ومصالح سياسية واقتصادية واستراتيجية متداخلة ومتشابكة، وسياساتها الاقتصادية والسياسية وخطواتها العسكرية، تؤثر في حياة المنطقة على الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية، إلا أنه لا توجد لدينا نحن أبناء المنطقة، دراسات متخصصة ومتخصصون استراتيجيون في الشأن الأميركي. وما أحوجنا اليوم على صعيد دول مجلس التعاون الخليجي، إلى بناء مركز أبحاث ودراسات استراتيجية يعنى بالشأن الأميركي. ويستهدف التعرف على الولاياتالمتحدة الأميركية بعمق، واستيعاب آليات عمل مؤسساتها وهياكلها المختلفة وكيفية صنع القرار السياسي والاستراتيجي الأميركي، وطبيعة علاقة المؤسسات الاقتصادية العملاقة بالقرار السياسي، ومن هي الجهات والمؤسسات التي تساهم في صياغة الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية الأميركية وغيرها من الموضوعات الهامة. لا يمكننا اليوم أن نتعامل مع الولاياتالمتحدة الأميركية كأي دولة في العالم. إنها الإمبراطورية العالمية، والتي تؤثر أحوالها وسياساتها على كل قارات العالم. ولكي نحفظ مصالحنا الاستراتيجية، ونتعامل مع هذه الدولة العملاقة بوعي وعلم لما يجري فيها، نحن بحاجة اليوم إلى مركز دراسات متخصصة في الشأن الأميركي. يقدم دراسات وأبحاث استراتيجية متكاملة، يخرجنا من نزعات التسرع في اتخاذ القرارات الهامة والمصيرية، ويسند رؤيتنا الاستراتيجية بمعلومات ورؤى واقعية، ويبني سياساتنا تجاه الولاياتالمتحدة الأميركية على فهم عميق لطبيعة التوجهات الاستراتيجية لهذه الدولة، ويحول دون تأثير الانطباعات الشخصية أو الأمزجة الأيدلوجية من صناعة خيارات مؤثرة في حاضرنا ومستقبلنا. فالولاياتالمتحدة الأميركية عالم واسع ومعقد ومركب، ومؤسساتها المتعددة تتداخل مع بعضها وتساهم وفق آلية دقيقة في صياغة الاستراتيجيات والسياسات الأميركية. ولا يمكن أن نتعامل معها بانطباعات شخصية أو أمزجة أيدلوجية جاهزة، وإنما نحن بحاجة أن نتعامل معها تعاملا علميا، نحقق من خلاله مصالحنا، ونحافظ على أمننا واستقرارنا. والمركز الخليجي للدراسات الأميركية المقترح، بإمكانه أن يوفر مادة علمية متكاملة عن الحياة الأميركية وتطوراتها المختلفة، ويرفد صناع القرار السياسي والاقتصادي في منطقتنا بدراسات وأبحاث ومعلومات دقيقة، تساهم في تصويب هذه القرارات بما يخدم مصالحنا الاستراتيجية والاقتصادية. ونحن نتطلع إلى أن تبادر الجهات والمؤسسات العلمية الخليجية، الرسمية والأهلية، إلى بلورة هذا المقترح بشكل متكامل، والبحث عن آليات رسمية أو أهلية لإنجازه، وتوفير كل مستلزمات ومتطلبات وجوده المادي والعلمي. عن صحيفة الوطن القطرية 7/2/2008