الشافعي يحن الى مسقط رأسه .. في غزة سلطان الحطّاب الامام الشافعي رضي الله عنه محمد بن ادريس المدفون في القاهرة يحن الى مسقط رأسه في غزة التي كان قد خرج منها على موعد ان يعود وقد ترك فيها ابنته آسيا وكان خروجه للدعوة والتبشير بمذهبه .. وحين كان يغادر غزة الى بغداد ثم يعود الى القاهرة اصابه الحنين الى غزة وقد قال في ذلك شعرا واني لمشتاق الى غزة وان خانني بعد التفرق كتماني سقى الله ارضا لوظفرت بتربها كحلت به من شدة الشوق اجفاني مسقط رأس الشافعي محاصر وسدنة مسجده لا يجدون حتى الشموع لانارة مرقده .. وفي الجوار ضريح جد النبي صلى الله عليه وسلم هاشم الذي سميت غزة باسمه فقيل غزة هاشم .. وقد وصلها في تجارة وهو مدفون فيها وله ضريح اقيم عليه مسجد ما زال الغزيون يقصدونه ويصلون فيه.. هاشم ينادي اهله وأمته وأتباع دين حفيده ويستصرخ ما أصاب غزة من دمار وحصار وقتل وتجويع حتى تستسلم ولكن غزة منذ خمسة آلاف سنة وهي تواجه الغزاة الذين جاؤوها وتؤمن ''ان الكف تناطح المخرز ولا تعجز''.. غزة التي فاض بها الكيل حصاراً وتعذيبا خرجت عن الأسوار والأسلاك والحواجز لتخترق المعابر وهي تسجل بذلك بداية تاريخ هدم الاسوار والجدران التي اعتقد أتباع (شمشون) انها تحميهم وقد ارادوا وهم يصنعون ''جيتو غزة'' اكبر جيتو في التاريخ اذ انه يبلغ أربعة أضعاف ''جيتو وارسو'' الذي وضع هتلر فيه اليهود.. قال أحد الغزيين: ''حتى القط حين تحشره في الزاوية تريد ضربه او قتله يصبح اسدا'' .. ويبدو ان القيادة اليمينية الاسرائيلية التي تعيد انتاج السلوك النازي في غزة منذ قطعت اسباب الحياة عنها لم تقرأ كلام الغزي ولم تدرك ان الارادة حين تقوم فان صاحبها لا يعدم الوسيلة .. هكذا كانت الانتفاضة الاولى بالحجر وهكذا كان تصميم أهل غزة على اقتحام المعبر وقد وجدوا ان العرب خارج المعبر وفي عموم الساحات العربية قد فغروا افواههم وما زالوا يناقشون جنس الملائكة او كيف يمكن اعادة الجني الى (القمقم) استجابة للنداءات الاميركية التي لا يهمها ما يحدث.. المفاجأة العربية ليس استمرار حصار غزة فقد أدمنت العيون العربية مشاهد الحصار على مدار سنوات واشهر ولكن المفاجاة كيف خرج هؤلاء المحاصرون وكيف هدموا السور والمعبر بايديهم العزلاء وصدورهم واظافرهم وكيف تقدمت نساؤهم للعبور وسط زخات رهيبة من الرصاص والعصي التي أوقعت اكثر من ستين امرأة .. لقد اخذ الدم المتطاير على المعبر شكل الهواء ، وغزة التي أرادها الاسرائيليون ''جيتو'' ومقبرة يموت فيها الغزيون خرجت تفك قيودها عنوة لتضع الجميع أمام امتحان عسير مربك مازالوا لم ينجحوا فيه .. غزة هي الأقل ارتباكا فقد عرفت كيف تكسر الحصار وتدفع ثمنه وكيف تعيد حصار محاصريها وتعيد محاكمة جلاديها وان تصبح حالة جديدة برسم العطاء الذي تريد الادارة الاميركية معاودة طرحه لكن لا يتقدم له احد ولذا تبقى غزة الآن على اغرب حالة لا يوجد لها مثيل في الارض وستدخل قاموس غينيس على حالتها هذه .. شعب لا يريد احد ان يتحمل مسؤوليته حتى الاحتلال يتخلى عن مسؤولياته والأطراف العربية تريد محاصرة القطاع وكأنه مصاب بالطاعون فلا يدخل اليه ولا يخرج منه.. هذه الدراما المفجعة التي لا يعرف مثيلها الاّ في مسرحيات سوفكليس كيف تنتهي ومن المخرج الذي سيضع لها القفلة والنهاية وهل صحيح ان الشعوب هي التي تكتب التاريخ ام ان هذا القول من قبيل العزاء ؟ غزة تعودت على الغزاة ولكنها كانت تقهرهم فقد قهرت المرأة الغزية ''دليلة'' ''شمشون'' وقيدته بشعره قبل ان يرتكب عدوانه ويقول ما قال رابين بعد خمسة آلاف سنة عليّ وعلى اعدائي .. غزة قاومت الاشوريين الذين اسموها ''غزاتو'' وردت الهكسوس الذين اسموها ''هازاتو'' ودونوا صمودها في كتبهم. وحين جاءها الاسكندر المقدوني غازياً طعنه رجل غزي في ظهره ليظل ذلك شاهداً على طبيعة المكان فالاسكندر لم يجرح في اي حرب من حروبه الاّ في غزة.. وغزة ردت البطالسة واليونانيين والسلوقيين في حين استقبلت الأنباط والعرب واحتضنت رفاة هاشم جد الرسول كما استقبلت الرسول صلى الله عليه وسلم في تجارة لخديجة بنت خويلد ، وأعطت محمد بن عبد الله امرأة صحبها معه الى مكة وهي غزية اسمها ''أم شريك''.. عاشت حتى شهدت النبوة وروت عنه الحديث .. غزة قاومت نابليون وطردته وردت جيش ابراهيم باشا بمساعدة أهل السلط.. ورمت القائد الانجليزي اللنبي بالحجارة فلم يستطيع ان يكمل في اهلها خطته.. غزة ام الشهداء هي اليوم اسيرة اسرائيل .. تعيش الاحتلال والحصار من جهاتها الأربع.. بالأمس حطمت الحواجز والقيود وخرجت ولا يعرف احد ماذا ستفعل والى اين ستذهب ومن الذي ستصيبه لعنتها.. انها تكتب الآن درساً جديداً بأيدي فقرائها وأطفالها ولا تعير اذناً لمن يدعون المسؤولية عنها فهي لا تريد تكرار قصة شاور وضرغام في الاقتتال بين الأخوين وترك الصليبيين.. انها ترد رحلة التيه باتجاه الجنوب الى ان يأتي موسم الهجرة الى الشمال وعندها سيكون لكل حادث حديث.. غزة تريد الخلاص .. لا تريد وصاية احد فهي الأقدر على تدبير أمرها لو جرى السماع لصوتها واخذ رأيها وفك قيودها الداخلية والخارجية .. عن صحيفة الرأي الاردنية 28/1/2008