عن جمال عبدالناصر في ... تسعينيته محمد خرّوب اليوم ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر .. التسعون، وهي مناسبة ملائمة ليس للتذكير بهذا الزعيم العظيم، فهو لم يغب يوماً عن المشهد العربي وذاكرة الملايين، وكلما ازداد الظلام وازداد العرب ركوعاً وذلاً واستخذاء.. ردد المقهورون: أين عبدالناصر؟ وأضافوا في حنين الى زمن الكرامة والعزة والكبرياء.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر .. لا نذهب الى اللغة لاستحضار المراثي أو لبعث الحياة في جسد عبدالناصر الذي غاب، ولا نحاول البكاء على الأطلال أو تسويق الناصرية بما هي فكر قومي لم يعرف الشوفينية ولم يساوم على حقوق الأمة ولم يدخل في لعبة الحسابات والمعادلات والاصطفافات والتحالفات المشبوهة.. ولا ننكر في الوقت ذاته الأخطاء وربما الخطايا التي ارتكبت في عهد جمال عبدالناصر وكيف تحولت الأجهزة الأمنية الى دولة داخل الدولة، وكيف استحوذت مراكز الفساد واللهو على دائرة صنع القرار في المؤسسة العسكرية حتى داهمتنا كارثة حزيران .67. آن للشامتين والمتربصين أن يتوقفوا عن بث سمومهم وأحقادهم ومواقفهم المعادية للأمة ومستقبلها وحقها في الحرية والاستقلال الحقيقي والتنمية الوطنية المستقلة، حيث ما زالوا يواصلون تدبيج الكتب والخطابات والبيانات ويعقدون الندوات للاساءة الى جمال عبدالناصر وتاريخه المجيد، الذي لا يخلو من أخطاء لكنه الأنصع بياضاً والأكثر انتماء ووطنية وقومية وكرامة ورفضاً للهيمنة والتبعية والاستخذاء والتآمر، وانحيازاً للفقراء والمسحوقين، حتى بعد اربعة عقود (تقريباً) على رحيله، من كل اولئك الذين يتصدرون الصفوف ويواصلون الثرثرة والتنظير، ويجعلون من أنفسهم ضحايا المرحلة الناصرية، رغم انهم امتلكوا القرار والثروات وتخلصوا بل تحرروا من كل ما يمت للناصرية بصلة. هم لا يجدون في واقع الحال سوى الهجوم على الناصرية، كي يخفوا كل جرائمهم وتواطئهم مع اعداء الأمة وجماهيرها، وكي يهربوا من حكم التاريخ الذي لن يرحمهم بعد كل ما قارفوه وارتكبوه من أفعال وكيف حولوا شعوب هذه الأمة الى جموع جائعة ومستلبة، وفرطوا بالأرض والمقدسات والسيادة، وارتهنوا لمعونات الأجنبي الذي ينهب ثروات الأمة ويفسد نخبها الحاكمة ويقرر مدى صلاحية هذه الطغمة أو تلك، بل هو يتدخل في الأعداد والأرقام والأنواع في كل مجال وعلى أي مستوى.. ما زلنا نغرف من قاموس العاطفة وخصوصاً ان ذكرى الخامس عشر من كانون الثاني للعام 1918، تحل، فيما جورج بوش أكثر الرؤساء الاميركيين عداء للعرب وأكثرهم تعصباً وأيديولوجية، يجوب بلادنا ويلقي بمزاميره وينفث سمومه ويبشر بيهودية اسرائيل ويأمر الفلسطينيين والعرب بأن ينسوا شيئاً اسمه حق العودة والأمم المتحدة وقراراتها التي فشلت في حل الصراع وان عليهم ان يختاروا بين فقدان الأرض والمستقبل وفقدان المنصب والرضى والحظوة لدى سيد البيت الأبيض وزعيمة العالم الحر.. لم يُخرج جمال عبدالناصر لسانه لأميركا، ولم يقل طز في أميركا بل كان يعي المعادلات الدولية ويدرك طبيعة موازين القوى في عالم تحكمه المصالح وليس المبادئ.. لكنه وهو يواجه كل هذه القوى الامبريالية الحديثة منها والتقليدية، لم يتنازل عن السيادة الوطنية ولم يُضحِّ بكرامة أمته ولم يجبن أمام التهديد والوعيد، لعب على تناقض القوتين العظميين وناور لجلب المزيد من المكاسب والدعم، لكنه لم يضل الطريق ولم يفرط بالحقوق ولم يضيّع البوصلة، بل واصل رغم كل الجراح التي اثخنته والخيانات التي تعرض لها، حث الأمة على الوحدة ودعوتها لإبقاء الرؤوس مرفوعة وقال قولته الخالدة ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة .. صحيح أن مياهاً كثيرة تدفقت من تحت الجسور العربية والدولية، وصحيح أن ما كان ممكناً في أواخر ستينات الماضي لم يعد يسيراً الآن، وصحيح جداً ان المعادلات الدولية قد أصابها الخلل وفقدت موازين القوى توازنها .. إلاّ ان شيئاً لم يتغير وتثبت الأيام صحته، وهو أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها.. وللذين ما زالوا يكنون لعبدالناصر كل هذا الحقد والعداء والضغينة، ان يدلونا الى أي درب ومسارات أخذونا (ويأخذوننا الآن) بعد ان ادارت لهم اميركا ظهرها وقالت لهم لا داعي لاستمرار تذكيرنا بالشرعية الدولية واتفاقية جنيف الرابعة وشرعة حقوق الانسان وأبدت اسرائيل ازدراءها لشعار عرب ما بعد عبدالناصر السلام خيار استراتيجي وحرب اكتوبر هي آخر الحروب ..وبعد أن أعاد الطرفان الاميركي والاسرائيلي التأكيد على الحقيقة التي كرسها الوجود الصهيوني على أرض فلسطين منذ بدأت استيطانها وحروبها ضد العرب وهي ان حدود اسرائيل تكون حيث يكون بصطار الجندي الاسرائيلي... المرحلة الناصرية في حاجة الى مراجعة وتدقيق وإعادة قراءة عميقة وموضوعية تأخذ في الاعتبار كل الأحداث التي مرت بها والقرارات التي اتخذتها، إلاّ ان ذلك كله لا يغير من حقيقة أنها كانت مرحلة عز وطني وكبرياء قومي وإرادة صلبة لم تكن لتكسر أو تهزم كما هي حالنا اليوم لو بقي عبدالناصر حياً أو سرنا على نهجه. عن صحيفة الرأي الاردنية 15/1/2008