بوش أسمع الإسرائيليين ما يريدون سماعه جواد البشيتي في بعضٍ من الجانب الرمزي من زيارته، التي لم يَقُلْ «التاريخ» بعد كلمته في شأن «أهميتها التاريخية»، رأيْنا الرئيس بوش يوجِّه «إهانة» إلى الشعب الفلسطيني بأسره إذ أحجم عن زيارة ضريح الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، خارِجاً عن البروتوكول الذي يتَّبعه الزوَّار الأجانب، وكأنَّه أراد أن يقول للشعب الفلسطيني إنَّ «تنازُلكم المؤْلِم الأوَّل» يجب أن يكون عن «وديعة عرفات». «المُسْتَقْبِل» الفلسطيني كان، على ما يبدو، يتوقَّع تلك «الإهانة»، فرأيْنا في «صورة اللقاء» صورة الرئيس عرفات فوق رأس الرئيس بوش الذي كان جالساً إلى جانب الرئيس محمود عباس. الرئيس بوش، وفي أثناء زيارته لإسرائيل، زار موقعاً، قام فيه المسيح بمعجزة إذ أطْعَم، بحسب ما جاء في الإنجيل، أكثر من خمسة آلاف شخص من خمسة أرغفة وسمكتين، وكأنَّ هذا الزائر أراد أن يقول إنَّه سيجترح معجزة «إطعام نحو 10 ملايين فلسطيني» من «خمسة أرغفة وسمكتين»، أي من «الدولة الفلسطينية»، التي وعد، ويَعِد، بقيامها، والتي «يجب أن يكون إقليمها وطنا للشعب الفلسطيني، يحقُّ لكل لاجئ فلسطيني يَحْلُم بالعودة أن يعود إليه»! في إسرائيل، أسْمَعَ الرئيس بوش الإسرائيليين ما يرغبون في سماعه، وهو التزام الولاياتالمتحدة بالحفاظ الدائم على أمن إسرائيل «بوصفها دولة يهودية»، فمفاوضات «الحل النهائي»، التي ستبدأ عمَّا قريب، والتي تسميها إسرائيل مفاوضات في شأن «القضايا الأساسية» في النزاع مع الفلسطينيين، يجب، بحسب التصريحات التي أدلى بها الرئيس بوش، أن تنتهي إلى اتِّفاق، تتمتَّع إسرائيل (أو «الدولة اليهودية») بموجبه ب «حدود آمنة، معترّف بها، ويمكن الدفاع عنها». وهذا الاتِّفاق «يجب أن ينص (بحسب التصريحات ذاتها) على أن تكون فلسطين وطناً للشعب الفلسطيني، كما هي إسرائيل وطن للشعب اليهودي». ولكن، ما هي تلك «الحدود الآمنة..»، التي تحدَّث عنها الرئيس بوش بلهجة «الآمِر»، مستعملاً كلمة «يجب»؟ في إجابته عن هذا السؤال قال الرئيس بوش إنَّ القرار في أمْر «الأرض» يعود إلى الطرفين اتِّخاذه، «مُعْرِباً عن اعتقاده (هذه المرَّة)» أنَّ أي اتِّفاق بينهما سيتطلَّب «تعديلات متَّفَقا عليها من الطرفين لخطوط هدنة 1949(الخط الأخضر) لتعكِس الحقائق الواقعة، ولتضمن قيام دولة فلسطينية قابلة للاستمرار ومتَّصلة». ويراد لتلك «التعديلات الحدودية» أن تسمح لإسرائيل بالحصول على أشياء عدة، من بينها، أو من أهمها، ضم الكتل الاستيطانية الأساسية إليها، والتي هي من تلك «الحقائق الواقعة»، التي تحدَّث عنها الرئيس بوش أوَّل مرَّة في «رسالة الضمانات» التي سلَّمها إلى شارون من قبل. جامعة الدول العربية أحسنت صُنْعاً إذ ذكَّرت الرئيس بوش ببعضٍ من «الحقائق الواقعة» في شأن «يهودية» دولة إسرائيل، ففي إقليم هذه الدولة يعيش الآن مليون ونصف المليون مسلم ومسيحي (فلسطيني) ونحو 400 ألف مسيحي روسي هاجروا إليها. ويبدو أنَّ الرئيس بوش، الذي لا يحتاج إلى من يُذكِّره بهذه «الحقيقة الواقعة (المؤْلِمة)»، لا يَجِد تعارُضاً بين «يهودية» و«ديمقراطية» تلك الدولة! ثمَّ أسْمَعَ الفلسطينيين كلاماً، بعضه، وفي ظاهره، قد يسرُّهم، وبعضه يثير في نفوسهم قلقاً لم يُثِرْهُ أي كلام لقبله من رؤساء الولاياتالمتحدة. في «العسل» من كلامه قال للفلسطينيين: «نقطة الانطلاق لمفاوضات الوضع النهائي يجب أن تكون إنهاء الاحتلال الذي بدأ سنة 1967»، ولكنَّ هذا «الإنهاء» يجب ألاَّ يكون، بحسب ما أوضح الرئيس بوش، إنهاءً لتلك «الحقائق الواقعة» العزيزة على قلبه، ف «الاحتلال (الذي لم يُضِفْ إليه كلمة «الإسرائيلي»)» يجب أن ينتهي بما يلبِّي الحاجة الإسرائيلية إلى «التعديلات الحدودية»، التي من الأهداف الكامنة فيها، أي في تلك «التعديلات»، ألاَّ تصبح «القدسالشرقية» عاصمة للدولة الفلسطينية، أو جزءاً من إقليمها. ونحن لم نسمع الرئيس بوش يتحدَّث، ولو مرَّة واحدة، عن «عاصمة»، أو «موقع عاصمة»، دولة فلسطين الديمقراطية، والتي ستعيش جنباً إلى جنب، في أمن وسلام، مع دولة إسرائيل. الرئيس بوش يريد ل «دولة فلسطين» أن تكون من «الجُبْن الطري»، ولكن ليس ك «الجُبْن السويسري المليء بالثقوب»، فهذه الدولة يجب أن تكون «متَّصِلة غير مجزَّأة»، و«الاتِّصال»، في معناه الإسرائيلي، هو أن يكون إقليم الدولة الفلسطينية على شكل «أجزاء»، يتَّصِل بعضها ببعض ب «وصلات إسرائيلية». وكانت «القنبلة» التي فجَّرها الرئيس بوش، ف «التعويض المالي» للاجئ، أصلاً وفروعاً، هو، على ما بدا في تصريحات الرئيس بوش، «جوهر الحل»، فلقد قال: «اعتقد أنَّ علينا النظر في آليات دولية جديدة، تشمل التعويضات لحل مشكلة اللاجئين». العبارة «آليات دولية جديدة تشمل التعويضات..» قد تَجِد من يفسِّرها على أنَّها لا تنطوي على دعوة إلى تخلِّي اللاجئين الفلسطينيين عن حقِّهم في العودة كما شرحه وأوضحه قرار الأممالمتحدة الرقم 194، ف «الآليات الدولية الجديدة تشمل (ولا تقتصر على) التعويضات». ولكن هذا التفسير ليس فيه من المنطق ما يسمح له بالصمود طويلاً، فالرئيس بوش أعلن وأكَّد وأوضح من قبل، وغير مرَّة، أنَّ الدولة الفلسطينية هي وحدها المكان الذي يحق للاجئين الفلسطينيين أن يمارسوا فيه «حقهم في العودة»، ثمَّ أعلن وأكَّد وأوضح الآن أنَّ «الدولة الفلسطينية ستكون وطن الشعب الفلسطيني كما هي إسرائيل وطن الشعب اليهودي». وغني عن البيان أنَّ هذا يعني أن ليس من حقِّ أي لاجئ فلسطيني أن يعود إلى حيث تقوم «دولة الشعب اليهودي»، وقد يعني مَنْح الحق لإسرائيل في «مزيدٍ من النقاء اليهودي» من خلال إزالة «الشوائب غير اليهودية»! لقد قرَّر الرئيس بوش أن يَجْعَل «التعويض المالي (الشخصي)» خير تعويض للاجئ الفلسطيني عن حقِّه في العودة إلى حيث كان قبل طرده وتهجيره. وعملاً بمبدأ «الحقائق الواقعة»، التي يبتنيها من حطام «الحقوق القومية (والإنسانية) للشعب الفلسطيني»، والمعترَف بها دولياً، قد يضيف الرئيس بوش إلى «التعويض المالي»، الذي يشبه تلك «الثلاثين من الفضة»، «توطين» الجزء الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين في خارج إقليم «دولة فلسطين»، أي حيث يقيمون الآن، أو في أماكن جديدة، و«تجنيسهم» بغير الجنسية الفلسطينية، فإنَّها معجزة لن يتمكَّن من اجتراحها أنْ يُطْعِم نحو 10 ملايين فلسطيني من «خمسة أرغفة وسمكتين»، أي من «قطاع غزة»، الذي ثلاثة أرباع سكانه يحصلون على غذائهم اليومي عبْر المساعدات الغذائية، والذي تُنْفِق الأُسَر فيه 60 في المائة من وارداتها المالية في شراء الطعام، ومن «الضفة الغربية»، التي لا يرى أهلها من جودة لحياتهم الاقتصادية إلاَّ إذا قارنوها بالحياة الاقتصادية لأهل «القطاع»! وإذا أرادت إسرائيل أن تبدو «إنسانية» و«سخية»، في مساهمتها في حل مشكلة اللاجئين، فإنَّها قد تساهم بنَزْرٍ يسير من أموال «الصندوق الدولي للتعويض»، وقد توافِق على عودة نَزْرٍ يسير من اللاجئين الفلسطينيين إليها بوصفهم أناسا يتمتَّعون ب «حقوق الإقامة الدائمة» فيها، ولا يتمتَّعون بشيء من «حقوق المواطَنة»، التي يتمتَّعون بها فحسب في «دولة فلسطين» المجاورة. هذا هو الحل النهائي الذي جاء به إلينا الرئيس (الراحل عمَّا قريب) بوش، وكأنَّه البشير والنذير، فمتى يمكن أن يغدو حقيقة واقعة؟ «المعلوم»، على ما قال الرئيس بوش، هو أنَّ التوصُّل إلى «اتِّفاق» في شأن هذا الحل «يمكن ويجب» أن يتم قبل، أو قبيل، مغادرته البيت الأبيض. ولقد قَبِلَ دعوة إسرائيل لزيارتها في مايو المقبل للمشاركة في الاحتفال بالذكرى الستين لقيامها. أمَّا «المجهول» فهو «متى يُنَفَّذ هذا الاتِّفاق، وتقوم دولة فلسطين»، فالفلسطينيون الذي حصلوا على «الاتِّفاق» لن يحصلوا على «تنفيذه» قبل أن تقرِّر إسرائيل والولاياتالمتحدة أنَّهم قد وَفوا بكل «التزاماتهم الأمنية» المنصوص عليها في «خريطة الطرق». المتحدِّث باسم رئاسة الحكومة الإسرائيلية سُئِل «هل تُوقَّع معاهدة سلام بين إسرائيل والفلسطينيين في نهاية 2008؟»، فأجاب قائلاً: «إسرائيل تأمل في التوصُّل إلى اتفاقية تاريخية في نهاية 2008 تُوْجِز الإطار والبنية والرؤية لدولة فلسطينية في المستقبل»! بين هذه «الاتفاقية التاريخية»، إذا ما تمَّ التوصُّل إليها في نهاية 2008، وبين «تنفيذها وقيام الدولة الفلسطينية»، هوَّة سحيقة هي «تنفيذ الفلسطينيين لالتزاماتهم الأمنية» بموجب «خريطة الطريق». إنَّها «هوَّة زمنية سياسية». «المفاوِض الفلسطيني»، وعلى الرغم مما أبداه من تفاؤل، اعتراه قلق وخوف، عَكَسَه «كبير المفاوضين» صائب عريقات إذ قال: «إنَّ الذي سيتَّخِذ قرارات من خلال التفاوض هو الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي». عريقات ما كان ليقول هذا لو لم يشعر بأنَّ تصريحات الرئيس بوش تسبَّبت بقلق فلسطيني أكبر من ذاك الذي تتسبَّب به المواقف الإسرائيلية. ولكنه، أي عريقات، أخطأ إذ اعتبر أنَّ تصريحات الرئيس بوش تعكس موقف الولاياتالمتحدة، ولا تعكس موقف الطرف الفلسطيني أو الطرف الإسرائيلي. إنَّها لا تعكس، ويجب ألا تعكس، موقف الطرف الفلسطيني، ولكنَّها تعكس الموقف المشترَك للولايات المتحدة وإسرائيل. ومِصْداقاً لِما نقول جاء تصريح المتحدِّث باسم الحكومة الإسرائيلية والذي قال فيه «إنَّ تصريحات بوش مقبولة إسرائيلياً، وإنَّ إسرائيل تراها إيجابية، وإنَّ ما قاله الرئيس بوش يتَّفِق مع التفاهم القائم بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل»، في إشارة منه إلى «رسالة الضمانات»، التي أظْهَر الرئيس بوش تمسكه بها من خلال التصريحات التي أدلى بها. في مايو المقبل، يزور الرئيس بوش إسرائيل ثانيةً، فهل تأتي زيارته المقبلة قُبَيْل، أم بُعَيْد، حَدَثٍ إقليمي كبير، يراد له أن يكون، في بعض من نتائجه وعواقبه، تذليلاً لعقبة كبرى من طريق إهداء الرئيس بوش لإسرائيل السلام الذي حَلمت به زمناً طويلاً، والذي ظل كالكابوس بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني زمناً طويلاً؟! عن صحيفة الوطن القطرية 14/1/2008