يشهد متغير المياه اهتماما متصاعدا في السياسة الدولية منذ سبعينيات القرن العشرين, وذلك في إطار الاهتمام الدولي بقضايا البيئة, بدءا بانعقاد مؤتمر استوكهولم للبيئة عام1972, وما تبعه من كتابات خلال العقود الثلاثة الماضية, سواء في الأدب الاقتصادي, أو في الأدب السياسي.
ومن هنا, بدأت المياه المشتركة بين الدول تأخذ أهمية استثنائية في العلاقات الدولية.. فقد صار ينظر إلي متغير المياه باعتباره أحد العوامل الرئيسية التي باتت تهدد علاقات حسن الجوار والتعاون الإقليمي فيما بين الدول المتشاطئة لأحواض الأنهار الدولية. وفرضت مشكلة المياه نفسها كواحدة من الموضوعات الرئيسية التي تحمل آمالا في التعاون المستقبلي, أو تنذر بقيام صراعات دولية, ونشوب حروب بشأنها, خاصة في ظل محدودية الموارد المائية للدول التي تتقاسم الأنهار الدولية المشتركة. وبالنظر إلي النظام الإقليمي المائي لحوض نهر النيل, نجد أنه تجسيد واضح لتداخل التفاعلات المائية الدولية التعاونية مع التفاعلات الصراعية.
فبالرغم من أن حوض النيل يتلقي كميات من الأمطار السنوية تصل إلي ما يزيد علي1600 مليار م3, إلا أن الإيراد السنوي لذلك النهر لا يزيد علي84 مليار متر مكعب فقط, تحصل منها مصر علي حصة ثابتة ومستقرة تبلغ55,5 مليار م3, في حين تحصل السودان علي18,5 مليار م3.
بيد أن هذه الأنصبة المائية المذكورة التي أصبحت واحدة من الركائز المهمة للأمن المائي المصري بصفة خاصة وإحدي دعائم الأمن القومي المصري بصفة عامة أصبحت محل رفض وتشكيك من جانب بعض دول منابع حوض النيل خلال الآونة الأخيرة.. ولقد تزايدت مطالب هذه الدول بضرورة تعديل الأطر القانونية الحاكمة والمنظمة لمياه النيل.
وحرصا من مصر علي ضرورة استدامة علاقات التعاون بينها وبين الدول النيلية الأخري, بما لا يتعارض مع الأمن القومي المصري, ودونما التفريط في حقوقها الثابتة والمكتسبة في مياه النيل, فقد دخلت مصر منذ عام2001 في عملية تفاوضية مع دول حوض نهر النيل بهدف التوصل إلي اتفاقية إطارية تنظم إدارة الموارد المائية في الحوض من مختلف الأوجه, ولاتزال المفاوضات مستمرة حتي الآن.
وبتحليل السلوك التفاوضي لدول منابع حوض النيل, لوحظ أن هناك ثلاث قضايا خلافية حالت دون التقاء وجهات نظر تلك الدول مع دولتي المصب( مصر والسودان), وظلت تلك القضايا تشغل حيزا بين الشد والجذب, بين القبول والرفض, بين التقابل والتنافر, وكانت تلك القضايا الخلافية بمثابة مناظرات فكرية وسياسية وقانونية واقتصادية وهيدرولوجية, ما بين دول منابع حوض النيل من ناحية, وبين دولتي المصب والمجري( مصر والسودان) من ناحية ثانية.
تمثلت القضية الأولي في المواقف من مشروعية اتفاقيات مياه النيل السابقة.. فبالنسبة لدول منابع النيل, فإنه يمكن تقسيمها حسب مواقفها من اتفاقيات مياه النيل السابقة إلي فئتين رئيسيتين: فئة القبول بالأمر الواقع, ويندرج في هذه الفئة كل من: رواندا وبوروندي وإريتريا والكونجو الديمقراطية.. وهي الدول التي تميل إلي تبني مواقف غير تصعيدية بشأن الصراع المائي الدولي في حوض النيل حول مشروعية اتفاقيات مياه النيل, أما الفئة الثانية, فهي فئة الرفض والمطالبة بالتغيير, ويتمحور موقف هذه الفئة في رفض اتفاقات مياه النيل السابقة, والمطالبة بإسقاطها نظرا لكونها أبرمت في الحقب الاستعمارية, ومن ثم, تدعو إلي بطلان تلك الاتفاقات وإحلالها باتفاق جديد.
وفي المقابل, تؤكد دولتا المصب والمجري( مصر والسودان), والتي تؤكد مشروعية تلك الاتفاقات استنادا إلي مبدأين رئيسيين في القانون الدولي العام, وهما: مبدأ التوارث الدولي للمعاهدات ومبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة.
أما القضية الخلافية الثانية, فتتمثل في الموقف من تقاسم مياه النيل, وفي هذا الصدد, أكدت وجهة نظر بعض دول المنابع ضرورة إعادة النظر في الكيفية التي يتم علي أساسها تقسيم مياه النيل. ومن ثم, تطرح تلك الدول معايير للتقاسم تري أنها الأولي بالاتباع عند توزيع الأنصبة المائية في نهر النيل, مثل مدي الإسهامات المائية لكل دولة في الإيراد المائي للنهر, ومساحة الحوض النهري في كل دولة, بحيث لا يكون الإيراد المائي للنهر مقصورا علي دولتي المصب والمجري.
كما تنادي بعض دول منابع النيل خصوصا في الآونة الأخيرة بالأخذ بمبدأ بيع المياه دوليا, مؤكدة أنه إذا كانت مصر والسودان تصران علي الاحتفاظ بحصتيهما المائية, فعليهما أن يدفعا ثمنا مقابل ذلك.
وفي المقابل, تمحورت وجهة نظر دولتي المصب حول حجتين بشأن كيفية تقاسم مياه النيل, الحجة الأولي, وتستند إلي الأخذ بمبدأ الانتفاع العادل والمنصف بموارد النهر المائية والطبيعية.
ومن ثم, فإن الطرح المصري يؤكد ضرورة تبني مفهوم الحوض المائي وليس المجري المائي, انطلاقا من أن مفهوم حوض التصريف الدولي يأخذ في اعتباره المياه السطحية( والتي تشمل: الأنهار, البحيرات, البرك, المستنقعات) والتي تعرف بالمياه الزرقاء, فضلا عن المياه الجوفية المتجددة وغير المتجددة, علاوة علي المياه التي تسهم في إرواء النباتات والغابات والأشجار والحيوانات, والتي تعرف بالمياه الخضراء.
أما المجال الثالث, من مجالات التفاوض, والذي مثل مسألة خلافية في الرؤي النيلوية( المنابع المصب), فيتمثل في الصراع حول مدي لزومية شرط الإخطار المسبق عند القيام بمشروعات مائية قطرية فردية أو جماعية علي مجري الحوض المائي للنهر, حيث تصر مصر والسودان علي ضرورة إعمال شرط الإخطار المسبق بشأن جميع المشروعات المائية في حوض نهر النيل, وذلك إعمالا لمبدأ أصيل من مبادئ القانون الدولي العام الذي أقره العرف الدولي ونصت عليه الاتفاقات الدولية, وأكده الفقه والقضاء الدوليان, وهو مبدأ عدم التسبب في ضرر.
واستنادا إلي ذلك المبدأ, تؤكد مصر ضرورة التزام دول المنابع بالإخطار والتشاور المسبق مع مصر كشرط سابق قبل أن تزمع أي من هذه الدول في الشروع في تنفيذ مشروعات مائية قطرية.
وفي المقابل, تصر دول المنابع النيلية علي عدم التقيد بالإخطار المسبق كشرط سابق عن أي مشروعات مائية تزمع علي إنشائها, وذلك انطلاقا من قناعتها بأن الالتزام بهذا الشرط, يعني تقييدا لحريتها, وانتقاصا لسيادتها, كما أنه يعوق مشروعاتها التنموية. وتكشف متابعة السلوك الهيدروبوليتيكي( السياسي المائي لدول منابع حوض النيل حيال شرط الإخطار المسبق, انها تتبني منهج ما لا يدرك كله يترك كله, فإما أن يتم تطبيق شرط الإخطار المسبق بشكل تبادلي, أي أن يكون التزامها بإخطار مصر مسبقا بأي مشروعات مائية مرهون بالتزام مصر بالتشاور المسبق معها عند إقامة أي مشروعات مائية, أو أن تتحرر دول المنابع من أي التزام بالتشاور المسبق مع مصر بشأن إقامة المشروعات المائية القطرية.
إن تحليل المواقف التفاوضية لدول المنابع يكشف عن أنها تنطلق من مسلمات تاريخية مثلت بالنسبة لهذه الدول ثوابت سياسية يصعب التحرك خارجها, أو التنازل عنها, أو التفريط فيها, وهو ما ينطبق إلي حد بعيد علي السلوك التفاوضي المصري والسوداني, الأمر الذي قد يجعل من تلك المفاوضات, كما لو أنها مباراة صفرية العائد.
بيد أن ما يدعونا للتفاؤل قليلا, هو أن الإطار العام الذي انطلقت في سياقه تلك المفاوضات تمثل في مبادرة حوض النيلNBI),) التي تقوم علي منهج( اربح اربح), وهو المنهج الذي أسهم خلال الآونة الأخيرة في تحقيق مكاسب واضحة في مجالات بناء الثقة والتفاهم المشترك, وتوحيد لغة الحوار بين دول حوض النيل.
*كلية الاقتصاد والعلوم السياسية-جامعة القاهرة جريدة الاهرام - 30/5/2009