في ذكرى السد العالي د. مغازي البدراوي بالأمس التاسع من يناير مرت مرور الكرام وفي صمت تام ذكرى «السد العالي»، هذه الذكرى التي كنا في الماضي البعيد نحتفل بها احتفالات مهيبة تزدان فيها الشوارع وتقام المهرجانات في معظم مدن مصر، إنها ذكرى انطلاق البدء في المشروع التاريخي العملاق عام 1960.
و في نفس اليوم عام 1969 كان انطلاق أول شرارة كهرباء من محطة السد التي وصل إمدادها إلى أقصى مكان من جنوب مصر إلى شمالها، وكان من المتوقع أن لا تعير وسائل الإعلام أي اهتمام لهذه الذكرى المجيدة،
وخاصة الفضائيات التي لا تعرف في تاريخنا سوى الهزائم والنكبات وتفرد لها شاشاتها ساعات طويلة وعلى مدى عدة أيام متواصلة، وكأننا دون شعوب الأرض كلها لا نستحق الفخر والاعتزاز بإنجازاتنا وانتصاراتنا ومكتوب علينا الغرق في هزائمنا.
ولا ألوم الفضائيات كثيرا بقدر ما ألوم الإعلام المصري نفسه بكافة وسائله على تجاهله التام لهذه المناسبة الهامة التي سجلها التاريخ ليس فقط كإنجاز حضاري عملاق ولكن كرمز للإرادة المصرية والعربية القوية القادرة على مواجهة أقسى وأشد التهديدات والتحديات،
فقد ارتبط قرار بناء السد العالي بأهم قرار في تاريخ العرب الحديث وهو قرار تأميم قناة السويس الذي جاء في السادس والعشرين من يوليو عام 1956 كرد على رفض الولاياتالمتحدة وبريطانيا والبنك الدولي تمويل بناء السد العالي.
الغريب في الأمر أن هذه المناسبة كان الاهتمام بها ملحوظا إلى حد ما بعد رحيل عبد الناصر ليس من أجل الاحتفال والإشادة بالإنجاز العظيم بل من أجل توجيه الانتقادات والهجوم الشديد على السد العالي وتعداد السلبيات التي لا يمكن وصفها الآن
إلا بأنها كانت ومازالت تنم عن جهل وعدم الموضوعية والعلمية، مثل الأقاويل السطحية التي كانت تصدر عن غير المختصين والخبراء وتقول إن السد سبب أضرارا للزراعة في مصر وأدى إلى ضياع طمي النيل المغذي للتربة وزاد من النحر والتآكل لشواطئ النهر، و
غير ذلك من السلبيات التي تهاوت وانهارت أمام آراء المختصين والخبراء العالميين في المنظمة الدولية للسدود ومشاريع الطاقة العملاقة الذين اختاروا السد العالي كأكبر وأفضل مشروع ري وطاقة في القرن العشرين من بين 125 مشروعاً في مختلف أنحاء العالم، وبعد هذا الاختيار والتقدير الدولي لاحظنا بوضوح تراجع الحملة الهجومية على السد العالي ولم نعد نسمع شيئا عن السلبيات التي صدعوا رؤوسنا بها طيلة العقود الثلاثة بعد رحيل عبد الناصر.
لقد اعتبر تقرير المنظمة الدولية التابعة للأمم المتحدة السد العالي أكبر وأعظم سد في العالم كله، وعدد التقرير فوائد السد العالي ومدى أهميته القصوى لمصر معتبرا إياه صمام قلب مصر المتحكم في النيل الذي هو شريان الحياة للشعب المصري،
كما اعتبر التقرير السد العالي أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين من الناحية المعمارية الهندسية متفوقا في ذلك على مشاريع عالمية عملاقة أخرى مثل نفق بحر المانش الذي يربط بريطانيا بأوروبا، ومطار «شك لاب كوك» في هونج كونج الذي يعتبره الكثيرون أعجوبة من عجائب الدنيا،
وذكر التقرير أن السد وفر لمصر كميات هائلة من المياه تكفيها لمضاعفة الرقعة الزراعية لديها، وأمدها بطاقة كهربائية تكفيها لإنارة كافة مدنها وقراها وتشغيل العديد من المشاريع الصناعية العملاقة، كما أنقذ السد العالي مصر من خطر الفيضانات التي كانت تهددها دائما طيلة ألاف السنين من تاريخها.
لم يكن قرار عبد الناصر ببناء السد قرارا سياسيا يهدف من ورائه الشهرة والتمجيد لشخصه ونظامه كما يتصور البعض، وأبسط دليل على ذلك أن عبد الناصر لجأ لأعدائه من البريطانيين والأميركيين يطلب منهم المعونة لبناء السد،
ودخل معهم في مفاوضات ومحاورات صعبة وانتظر ردهم طويلا، لكنه في النهاية لم يستطع قبول شروطهم التي اعتبرها اعتداء واضحاً على سيادة مصر وتدخلاً سافراً في شئونها، ولم يلجأ عبد الناصر للسوفييت ولا لأية جهة أخرى لتمويل السد بل اختار القرار الصعب والخطير بتأميم قناة السويس من أجل بناء السد.
الآن اختفى بهدوء الاحتفال بالإنجاز التاريخي العظيم، كما اختفى بهدوء اسم عبد الناصر من على بحيرة ناصر التي أصبح اسمها بحيرة السد، وأخيرا ومنذ أشهر قليلة وبحجة التطوير والترميم رفعوا اسم عبد الناصر تماما من على النصب التذكاري للسد العالي.
بعد خمسة أيام من اليوم وفي الخامس عشر من يناير ستحل الذكرى التسعين لميلاد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وأتمنى أن تتجاهلها أقلام ليبراليونا الجدد الأشاوس ووسائل إعلامنا العربية وخاصة الفضائيات حتى لا يجرحوا أحاسيسنا ببذيء كلامهم وإهاناتهم لتاريخنا الذي سنظل نعتز به دائما رغم أنوفهم. عن صحيفة البيان الاماراتية 10/1/2008