على الرغم من الظروف السياسية العصيبة, التى مر بها السودان منذ ما يقرب من ثلاثة عقود, إلا أنه يحتل المرتبة الثالثة عربياً فى جذب الاستثمارات الخارجية, وذلك لما يملكه من مقومات لا تتوافر فى الكثير من الدول, من أهمها الموارد الطبيعية الهائلة, والتى تشكل مقوماً قوياً لمشروعات الاستثمار, إضافة إلى التنوع المناخى الفريد, وموقعه الاستراتيجى فى قلب القارة الأفريقية, مما سهل من حركة التنقل بين دول الجوار الأفريقى, خاصة العربية منها, فضلاً عن الخطوات الجادة التى اتخذتها الحكومة السودانية لتحقيق السلام والإستقرار السياسى, وتوفير كافه مقومات الاستثمار عن طريق استحداث خطط متطورة فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية, والامنية, وتوفير كافه الإمتيازات التى تجذب الاستثمار العربى, والأجنبى.
كما أن السودان من أكثر دول المنطقة جذباً للاستثمار الزراعي, والحيوانى, خاصة من الدول العربية, خاصة بعد تعاظم ازمة الغذاء العالمى, وارتفاع أسعار المواد الغذائية, وتحديداً القمح, الذى بدأت الدول الغربية فى استخدامه كوقود حيوى, مع ظهور أزمة الطاقة.
ويمتلك السودان مساحات شاسعة ومتنوعة من اخصب الأراضى الزراعية، يقدر الصالح منها للزراعة ب200 مليون فدان, والمستغل منها لا يتعدى 20 %. كما يتمتع بإمكانيات مائية هائلة, حيث تتوافر المياه بكافة مواردها النهرية والجوفية. كما يمتلك مراعي طبيعية تقدر بحوالي 322 مليون فدان، فيما تقدر مساحة الغابات بحوالي 218 مليون فدان.
وبعد قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف البشير, ُأثيرت على الساحه تساؤلات حول مستقبل الاستثمارت الخارجية فى السودان, خاصة العربية منها.
فعلى الرغم من تصريح وكيل وزارة الاستثمار في السودان عوض الكريم بله, الذى قلل من خلاله من التأثيرات السلبية لقرار الجنائية على الاستثمار في السودان, معللاً ذلك في إن معظم الاستثمارات التي تدخل السودان تأتي من دول لها مصالح معها.
واذا كانت الاستثمارات الخارجية الفعلية أو الموجودة على أرض الواقع السودانى, لم تتأثر بقرار التوقيف فى الوقت الحالى, وربما جاء ذلك نتيجه تطمينات البشير, التى اعلنها بعد قرار التوقيف, بأن بلاده ماضية في طريقها لتحقيق السلام والتنمية في السودان، إلا أن هناك مخاوف كبيرة من تأثر الاقتصاد السودانى, والعربى من ردة الفعل المنتظره فى حال ُنفذ قرار التنفيذ.
خاصة بعد تنامى الآراء التى ترى أن قرار مدعي محكمة الجنايات الدولية لويس أوكامبو سياسي أكثر منه قضائي, ويهدف إلى وجود مساحه من عدم الاستقرار السياسى والاقتصادى للسودان, بل رأى البعض ان القرار يهدف إلى إفشال التوجهات العربية للاستثمار فى السودان باعتبارة سلة غذاء العالم العربى, خاصة بعد إرتفاع اسعار المواد الغذائية. ووصل الأمر إلى درجة تصريح مسؤول سودانى كبير بأن قرار التوقيف جاء انتقاماً من السودان بسبب استبعاد الشركات الامريكية من الاستثمار فى مجال استخراج البترول داخل الاراضي السودانية.
أذن لا نبالغ أذا قلنا بأن المقومات الاقتصادية فى السودان تعتبر أحد العوامل الفاعلة فى السياسة الدولية.
وخلال عرضنا هذا سنحاول معرفه أثر قرار توقيف البشير على الاستثمارت فى السودان, خاصة العربية منها, وسنركز على الاستثمارات العربية لسببين هامين, أولهما أن الاقتصاديات العربية ذات منافع متبادلة, وبالتالى ما سيضر الاقتصاد السودانى, سيؤثر بالضرورة على الاقتصاد العربى, وسنركز على مصر والسعودية بأعتبارهما أكثر الدول العربية تأثيراً وتأثرا فى المجالين السياسى والاقتصادى, وثانى الاسباب أن تأثر الاستثمارات العربية فى السودان يعنى بالضرورة تأثر الاستثمارات الاجنبية, بإعتبارها جزءاً من الكل.
وتأتى المملكة العربية السعودية فى المرتبة الأولى من حيث الاستثمارات العربية المنفذة والجارى تنفيذها فى السودان, بقيمة تقترب من ثمانية مليارات دولار حتى العام 2008 محتلة المرتبة الثانية بعد الصين. فيما يقدر حجم الاستثمارات الخليجية بحوالي 20 مليار دولار.
وتتمثل الاستثمارت السعودية معظمها في البنية التحتية والمشاريع الحكومية، والتى من أهمها الاستثمار الزراعي؛ والذى جاء "لمواكبة المشكلة الغذائية، وزيادة الأسعار". حسب تصريح رئيس اتحاد عام أصحاب العمل السوداني سعود مأمون البرير.
وفى أول رد فعل من المستثمرين السعوديين فى السودان استبعد المستشار الزراعي للشركات السعودية المستثمرة في السودان المهندس ماجد الخميس انسحابَ الاستثمارات السعودية من الخرطوم بعد طلب المدعي العام بتوقيف البشير رسميًا. بل أن بعضهم تقدم بطلبات استثمارية جديدة فى السودان يصل حجمها نحو 15 مليار ريال.
ويأتى هذا الإطمئنان نتيجة الضمانات التى اعطتها الحكومة السودانية, وعلى رأسها الرئيس السودانى عمر البشير للمسثمرين, والتى تنص على إن الأنظمة والتي "نصَّ عليها القانون تمنع أي مصادرة لمشروع تجاري إلا بقانون تعويضٍ عادلٍ ولمصلحةٍ عامة، مع إعفاء المستثمرين من الضرائب الجمركية للمشاريع الزراعية، وإعطاء الأراضي الزراعية وفق عقود تأجير طويلة المدى دون مقابل".
لاشك ان الاستقرار السياسى, والأمنى لأى دوله يغرى ويجذب المستثمرين, ومثلما أكد جورج بورينج وزير الاستثمار السوداني أن توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة السودانية والمتمردين والتى عقدت فى الدوحة فتح الباب أمام التنمية, بما يعد مدخلا لتطوير المنطقة وزيادة الفرص الاستثمارية فيها.
وطبقاً للقاعدة الشهيرة فى عالم الاستثمار ان "رأس المال جبان", فأن هذا يعنى إيضاً أنه لابد وان تتأثر الاستثمارت الاجنبية فى السودان من قرار التوقيف, وإن تأثرها سيدخل فى مرحلة خطرة للغاية عندما يصل الأمر إلى تنفيذ القرار. أما الاستثمارت المصرية, فقد بلغت قيمتها فى السودان فى نهاية 2.5 مليار دولارعام 2008م ، بعد أن كانت لا تتجاوز 82 مليون دولار فى نهاية ديسمبر 2002م, بما يعنى زيادتها 30 ضعفا خلال 6 سنوات فقط، وتستأثر مصر بالمركز الثالث بين أهم الدول العربية المستثمرة فى السودان, بعد السعودية والكويت.
وتتمثل تلك الاستثمارت فى مجالات الصناعة والخدمات والقطاع الزراعى. وتعتبر مصر اكثر دول العالم تأثراً بأزمة السودان الحالية على جميع المستويات, وعلى رأسها الإقتصادية.
وتتمثل الخسائر المصرية فى عده قطاعات, أولهما فى مجال الاستثمار الزراعى, خاصة مع تنامى أزمة الغذاء العالمى, واستخدام القمح كوقود بدلاً من النفط, فقد صرح أحد المسؤولين المصريين بأن المخرج من أزمة الغذاء عربيا ليس له إلا طريق واحد هو طريق الخبرات المصرية والأموال العربية والأرض والمياه السودانية.
مما حدا بالحكومة المصرية إلى التوجه للسودان لتحقيق الأمن الغذائى المصرى, والتى تعتبر من اكثر دول العالم استيرادا للقمح, وتنفيذ قرار توقيف البشير يتبعه عدم استقرار سياسى وامنى فى السودان, وتوقف المشاريع الزراعية المصرية فى السودان, مما يُدخل الحكومة المصرية فى مأزق خطير, خاصة مع تنامى مشكلة الغذاء فيها. كما سيؤدى ذلك إلى إنخفاض الاستثمارات المصرية فى المجال الحيوانى, خاصة بعدما قررت حكومتها زيادة حجم وارداتها من اللحوم من السودان كبديل آمن عن بعض الدول الأوروبية.
وتأتى العمالة المصرية فى السودان كثانى القطاعات المتأثرة فى حاله تنفيذ قرار التوقيف, فالبرغم من ان عدد العمالة المصرية الرسمية مازال ضعيفاً (حوالى 50 ألف عامل), إلا أن تقارير أشارت إلى تعاظم هذا العدد فى المستقبل, وذلك مع زيادة قيمة الجنية السودانى, وإزدياد آثار الازمة الاقتصادية فى الخليج, والتى نتج عنها عودة الآلاف من المصريين, وإتجاههم إلى السودان, خاصة مع تشجيع البشير فى أكثر من مناسبة الفلاحين المصريين, للقدوم إلى السودان, وأخذ مايريدون من اراضي, والتعهد بتقديم جميع التسهيلات لزراعتها.
وبالتالى سيؤدى قرار التوقيف إلى زيادة نسبة البطاله فى مصر البالغة 9%, والتى هى فى الأصل مرتفعه, مما يعنى زيادة الضغط على الحكومة المصرية.
أما ثالث القطاعات المتأثرة من القرار, هو مجال الاستثمار المائى, وهو أهم وأخطر انواع الاستثمارات المصرية فى السودان. فمياه النيل تمثل شريان الحياة لمصر فى جميع مجالاتها, وهى مرتبطه إرتباط وثيق بالأمن القومى المصرى.. ويتركز القلق المصري فى حاله تنفيذ قرار التوقيف, وما يتبعه من عدم الاستقرار فى السودان, على أي محولات تستهدف إقامة سدود تعمل على تقليل تدفق المياه الى مصر, ومن ثم التأثير في حصة مصر الثابتة من المياه, والتي تسعى لزيادتها لمواجهة الزيادة السكانية والتوسعات الاستثمارية وزيادة الرقعة الزراعية. كما أنه سيمنع استئناف المشاريع الزراعية والاستثمارية الكبيرة التى ُتنفذ فى جنوب السودان, والتى من أهمها مشروع قناة جونجلي, الذى سيوفر 4 مليارات متر مكعب مياه تحتاجها مصر والسودان .
إجمالاً التأثيرات الناتجة من تنفيذ قرار توقيف البشير على الاستثمارت العربية, وبالتالى الاقتصاديات العربية, قد تكون أكثر من تأثر الاقتصاد السودانى نفسه.
فعن تأثر الاقتصاد السودانى, فأنه من المرجح أن يكون ضعيفاً للغاية, نتيجة لما يتمتع به الاقتصاد السودانى من إكتفاء ذاتى فى كثير من قطاعاته، والذى جاء بسبب الحظر الاقتصادي المفروض عليه، وهو ما أشار إليه وزير المالية السودانى الدكتور عوض أحمد الجاز بأن «خطتنا تعول على المزيد من الاعتماد على الذات، وأن السودان ظل منذ وقت بعيد يتعايش مع العقوبات الاقتصادية والحظر المفروض الاقتصادي عليه من قبل عدة جهات غربية, وتأكيده على أن بلاده صارت لها «مناعة» ضد الحظر والعقوبات. لذلك فالاقتصاد السودانى صنف من أقل الدول العربية تأثراً بالأزمة المالية العالمية الحالية.
إضافة إلى جملة التحويطات, والبدائل الاقتصادية, التى أتخذها الاقتصاديون والماليون السودانيون, حيث أعلن بدر الدين عباس نائب محافظ البنك المركزي السودانى عدداً من البدائل الاقتصادية لتفادى الآثار الاقتصادية السالبة لقرار المحكمة الدولية بحق الرئيس البشير، من بينها إتاحة فتح الاعتماد للبنوك بعملات أخرى بخلاف الدولار الأميركي, ووضع كميات إضافية من العملات لمقابلة احتياجات المواطنين.
فقد أتخذ البنك المركزى السودانى أولى تحويطاته, عن طريق حثه البنوك بفتح اعتمادات بعملات أخرى خلاف الدولار الأميركي بجانب تنظيم النقد الأجنبي. ووضع عدد من الإجراءات الواضحة من إتاحة مجال التعامل بسلة العملات الأخرى, إضافة إلى أن عدد غير قليل من الاستثمارات العربية محمية من قبل المؤسسة العربية لضمان الاستثمارات. كما أن استخدام الحكومة السودانية أسلوب الشراكات الإستراتيجية في الاستثمار كبيرة الحجم بين القطاعين العام والخاص, حيث تشترك مع القطاع الخاص فى الاستثمارات, اعطى درجات كبيرة من الثقة والامانً, للإستثمارات الاجنبية كالصينية, التى تحتل المرتبة الأولي للاستثمار في السودان بقيمة بلغت مليار دولار حتى نهاية 2007، والتى تنوعت ما بين النفط والإنشاءات والطرق ، ومجال الاستثمار الزراعي.
فعلى السودان أن يستغل هذة الشركة فى تسوية قضية توقيف البشير, خاصة فى مجلس الأمن, نظراً لما تملكه الصين من وزن وثقل كبيرين على الساحة العالمية.