لحظة الإحياء العربي في أنابوليس وسام سعادة انعقد مؤتمر أنابوليس واختتم أعماله، على أساس مفارقة فريدة من نوعها. سوف تتكفّل الأشهر القادمة بكشف الأبعاد والمستتبعات الاقليمية لهذه المفارقة، فضلاً عن الحصة المقتطعة للبنان منها. وجه المفارقة أن اللحظة المقرونة بمؤتمر أنابوليس انما تبتغي الجمع، في وقت واحد، بين مضمونين متعارضين، كمثل الجمع بين الجهود المبذولة بقصد «احياء» الطابع العربي للصراع العربي الاسرائيلي، وبين الجهود العازمة على «احياء» عملية تسوية مثل هذا الصراع. بمعنى من المعاني، يراد من لحظة مؤتمر أنابوليس التذكير بأن الصراع الدائرة رحاه في هذه المنطقة من العالم، منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي والى اليوم، هو صراع عربي اسرائيلي، وليس صراعاً اسلامياً اسرائيلياً أو ايرانياً اسرائيليا. هي اذاً لحظة التذكير والتشهيد بأن «عروبة» الصراع العربي الاسرائيلي قد باتت بخطر، وأنه بات من مصلحة المنخرطين في هذا الصراع، من الجانبين، «حماية» القواعد والأسس الشرعية للصراع، وتحصينه بوجه أولئك العاملين على مسخه صراعاً من نمط مختلف، أي بوجه ايران والحركات الأصولية المسلحة المرتبطة بها. ثمة، بالتالي، تقاطع موضوعي، ليس من حيث المصالح فحسب، وانما من حيث المبادىء كذلك الأمر، بين العرب والاسرائيليين، لجهة «اعادة الاعتبار» لروح هذا الصراع، وتحديداً ل«عروبة» هذا الصراع، مع أنه يقوم في الأصل على منازعة لا تنتهي بين «العروبة» والصهيونية». فلئن ذكّرنا أرشيف الحركة الصهيونية بأن ديفيد بن غوريون قد عرض ذات مرة على الأمير شكيب أرسلان، في لقاء جمع بين الرجلين في جنيف، بأن تنضم الحركة الصهيونية الى الحركة القومية العربية وتصير جزءاً عضوياً طليعياً في اطارها، بحيث يكون جمع بين بناء المجتمع اليهودي فوق أرض فلسطين وبين مساهمة اليهود في جمع أوصال الوطن العربي المفكك، والمساعدة على تنميته وتصنيعه، وعلى تحريره من النفوذ الاستعماري، فان ما نشهده ابتداء من لحظة أنابوليس، يوحي بأنّ المؤسسة الحاكمة في دولة اسرائيل أعادت اكتشاف المغزى الصهيوني من فكرة «العروبة» مرة جديدة، بل صارت تحاكم التجربة التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية من منطلق قومي عربي: فمن فرط ما نزعت الحركة الفلسطينية الى القرار الوطني المستقل، حكمت هذه الحركة على نفسها لاحقاً بالتشظّي وبالتفرّق وبتسليم الشعلة لحركات تقوم بتشويه الطابع «العربي» للصراع، وتستبدله بطابع اسلامي، وبقطب ايراني. هكذا، ينبغي، وفقاً لفلسفة مؤتمر أنابوليس، أن يدان المشروع النووي الايراني، عربياً، لأنه مشروع يريد أن ينتزع من العرب «صراعهم»، ولأنه يريد أن ينتزع من «الصراع» امكان تسويته في اطار «آثار حرب 67». لأجل ذلك، ينبغي على العرب، وفقاً للحظة مؤتمر أنابوليس، أن يسهروا على حماية صراعهم، ويتذكروا بأنه صراع من النوع الذي يتوجب تتويجه بالتسوية ذات يوم. في الوقت نفسه، ينبغي أن لا يستعجل أحدٌ ابرام التسوية بشكل منهجي وشامل ونهائي، لأن المرحلة تقتضي الدفاع عن «عروبة» الصراع. وفي مرحلة الدفاع العربي الاسرائيلي المشترك عن «عروبة» هذا الصراع، تكون مرجعية مؤتمر مدريد، أو فكرة مبادلة الأرض بالسلام معلّقة، لأن العمل على تطبيقها، يمكن أن يزرع الفتنة بين المتصارعين، في حين ينبغي أن يدافعوا سوية عن طبيعة صراعهم. ينبغي التأمل في أبعاد هذه المفارقة، مع تحاشي الانزلاق الى حيث دحضها أو تفنيدها. فهي تستعيد وتعكس جملة أوضاع غريبة عرفتها المنطقة منذ نهاية السبعينيات، عندما انسحبت أكبر دولة عربية من معادلة الصراع، الذي لم يكن في الأساس عربياً اسرائيلياً فحسب، وانما مصرياً اسرائيلياً في المقام الأول. انسحبت مصر فدخلت بدلاً منها دولة غير عربية، أي ايران، وهي أكبر دولة اسلامية في المنطقة، بل ودولة ثيوقراطية، «لا سيما» بعد الثورة. لقد كانت في عهدها الشاهنشاهي البهلوي، من أخلص الحلفاء للدولة العبرية، لكنها آثرت أن تتحول الى عدوة وجودية لهذه الدولة، مباشرة بعد أن اختتمت الحروب النظامية العربية الاسرائيلية. يمكن نظرياً التجرؤ بالقول، بأنه لو حصل، في نهاية السبعينيات، أحد الأمرين دون الأمر الآخر، لربّما انعكست المحصلة بشكل ايجابي وعقلاني على العرب. كان التطور الايجابي والعقلاني للأمور سيكون ممكناً في ذاته، لو أن ايران لم تدخل معادلة الصراع عندما خرجت مصر من هذه المعادلة. وكان التطور الايجابي سيكون ممكناً، لو أن ايران دخلت المعادلة الصراعية ولم تزل مصر في اطارها. أما، وقد حصل التزامن بين خروج أكبر دولة عربية من الصراع، ودخول أكبر دولة اسلامية غير عربية وغير سنية اليه، وبعد أن كانت هذه الدولة حليفة اسرائيل في حروبها النظامية السابقة مع العرب، فقد انعكس هذا التزامن خللاً بنيوياً هائلاً، قضى بتشويه طبيعة الصراع، وتبديد معقوليته. ليست المفارقة الأنابوليسية الراهنة (احياء صراع باحياء مناخات تسويته) الا امتداداً للمفارقة الأولى (التي عمرها هو عمر تزامن الساداتية والخمينية). وليس تقارب المفارقتين بشكل سليم، من دون الاقلاع عن «الوعي الزائف» الذي تدمنه قوى «الممانعة»، تلك المغتبطة بأن ايران قد «دخلت» الصراع لمواصلته وتصحيحه، يوم «خرجت» منه مصر. يفضي الاحتكام الى مثل هذا الوعي الزائف الى جعل الطور «المصري» من الصراع طور هزائم ليس الا، والطور «الايراني» للصراع، بامتداداته اللبنانية والفلسطينية، طور انتصارات بكل الأحجام والمقادير. في الوقت نفسه، ينبغي أن لا يتوهم أحد بأن تسوية الصراع العربي الاسرائيلي كانت لتكون تلقائية ومحتومة لو أن ايران لم تدخل هذه المعادلة، أو لو أمكن اخراجها لاحقاً من هذه المعادلة. لقد وصلت لحظة أنابوليس الى نصف الحقيقة، عندما حاولت احياء الصراع واحياء تسويته. لكن نصف الحقيقة الآخر يقول لنا، أنه ما عاد ممكناً لا احياء التسوية ولا احياء الصراع. عن صحيفة السفير اللبنانية 3/12/2007